دينج كان هنا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 12:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دينج كان هنا

نشر فى : الخميس 30 مايو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 30 مايو 2013 - 8:00 ص

القصة أوردتها الصحافة العالمية بعد أن شكَّلت عاصفة مجتاحة عبر مواقع التواصل الاجتماعى الصينية على شبكة الإنترنت، وبرغم كوننا فى قلب القصة إلا أننا لم نلتفت إليها فى حينها، ناهيك عن التوقف أمامها بالتأمل الواجب والتفكُّر المفيد، مما يشير إلى مدى «التوهة» و«التولة» اللتين تستلباننا وترميان بنا إلى منحدر هابط لا يَخفى هبوطه على أحد.

 

بدأت القصة عندما توقف مدوِّن صينى اسمه «شان» كان فى رحلة سياحية إلى الأقصر والتقط صورة لنحتية غائرة على أحد جدران معبد الأقصر تجسد الإسكندر الأكبر فى وضع الوقوف، وقد خدشتها كتابة صينية بجملة تقول «دينج شينهاو كان هنا»، وما أن وضع «شان» ما التقطته عدسته على الإنترنت، حتى هبت عاصفة من الغضب الصينى، وجرى بحثٌ محموم عمن يكون «دينج شينهاو» هذا، وأمكن للباحثين أن يحددوا مكانه فى إقليم «نانجينج»، وكل معلوماته الشخصية، بل اخترقوا مدونته، وجرى تجريسه مائة ألف مرة بمائة ألف تويتة تدين فعلته المشينة!.

 

لم يكن هذا الدينج شينهاو سوى صبى فى الخامسة عشرة، كان منذ فترة ليست قليلة مع والديه فى رحلة إلى مصر مروا خلالها بمعبدالأقصر، ويبدو ان الصبى فى مواجهة رهبة وعظمة المكان شعر بعدم التصديق أن تكون اللحظة حقيقية. وبنزوع صبيانى خربش على التمثال ما يثبت أنه «كان هنا» حقا، ولم يكن بالطبع يتوقع ما ينتظره جراء ذلك الفعل: نبذه زملاء مدرسته، وتحاشاه أتراب الحى، ولم ينج من تقريع الكبار، إضافة للإدانات المائة ألف التى انهالت عليه فى ليلة واحدة بعد نشر الصورة!

 

برغم أن والد الصبى اشتكى من هذه الحملة على ابنه كونها تشكل ضغطا يفوق احتماله، إلا أنه ووالدته خرجا إلى الصحافة والإعلام المحليين ليقولا: «إننا نود الاعتذار للشعب المصرى ولكل الناس الذين ساءتهم الواقعة عبر الصين جميعها»، وأضافت الأم إلى الاعتذار أن ابنها فى المدرسة الإعدادية حاليا، وقد ارتكب ما ارتكبه منذ فترة كان فيها أصغر سنا لكنه الآن يدرك خطورة ما ارتكبه.

 

هذه العاصفة على دينج وفعلته، اعتُبرت نموذجا لظاهرة متنامية بين مستخدمى الإنترنت الصينيين لفضح المعلومات الخاصة بمرتكبى الأخطاء العامة، والتى لاتستثنى مسئولين كبارا جرى تجريسهم بالكشف عن فضائحهم التى انتشرت على الإنترنت كالنار فى الهشيم، مما يوضح أن هناك جيلا شابا جديدا فى الصين لم يعد يهاب سطوة الحكام فى مجتمع يُفترض أنه محكوم بقبضة مركزية حديدية، كما يوضح أن هذا الحكم المركزى خفف كثيرا من غلواء سطوته تفهما لمستجدات الأمور واختلاف الأجيال.

 

وزارة الآثار المصرية قالت إن الضرر الذى أصاب الجدارية كان سطحيا وأنها رممته. أما «وانج يانج» أحد نواب رئيس الوزراء الصينى الأربعة فقد قال «إن السلوك غير المُتحضر لبعض السائحين الصينيين كان مؤذيا لصورة الصين»، وكان ذلك تصريحا شديد التواضع ورفيع الشعور بالمسئولية الوطنية إذا ماعلمنا أن الصين يمكنها أن تكابر كأهم مُرسل للسياح فى العالم، فأبناؤها تبعا لإحصاءات الأمم المتحدة يُنفِقون 102 بليون دولار فى سياحاتهم الخارجية سنويا، كما أن الصين صارت أكبر مصدر منفرد لدخل السياحة العالمية».

 

فى هذا السياق، أوصى زعيم الحزب الحاكم فى الصين مواطنيه بأن يتصرفوا بلياقة أكثر عندما يرتحلون خارج البلاد، فى حين أن مراسلة البى بى سى الدولية فى بكين «سيليا هاتون» رصدت عدة ملامح لمعاملات سيئة يلقاها السياح الصينيون فى الخارج والذين يقومون بـ83 مليون رحلة خارجية سنويا، ومن ذلك أنهم يُعامَلون كزوار من الدرجة الثانية فى كثير من البلدان، ويتعرضون للسرقة والاحتيال فى أكثر من بلد، وحدث أن فنادق جزر المالديف أخلت غرف النزلاء الصينيين من غلايات إعداد الشاى والقهوة لأنهم يستخدمون مياهها المغلية فى إعداد المكرونة الصينية سابقة التجهيز داخل غرفهم بدلا من إنفاق نقودهم فى مطاعم الفنادق! لكن كل ذلك لم يمنع السياحة الصينية أن تزيد هذا العام بنسبة 40%، فالدخول ارتفعت بشكل كبير نتيجة نمو الاقتصاد الصينى الملحوظ، وصار بمقدور أبناء الطبقة المتوسطة فى مدن صغيرة أن يقوموا بسياحات خارجية مكلفة.

 

كل هذا النمو فى حصة الصين كمُصدِّر أول للسياح فى العالم، لم يلجئهم إلى ابتزاز غيرهم لتمرير أية تصرفات لا يرضى عنها المُضيفون، بل سارعوا لتحمُّل مسئولية الأخطاء التى يرتكبها بعضهم فى بلدان غيرهم، وظهرت تدوينة لمسئول صينى كبير فى الموقع الالكترونى لجريدة «بيبولز دايلى» الناطقة باسم الحزب الحاكم تعبِّر عن هذا التوجه للوم الذات بدلا من الآخرين قال فيها: «إن إظهار الرُقى الحضارى لمواطنينا وإعطاء انطباع حسن عن صورة السائحين الصينيين هما مطلب أساسى للحكومة على كل المستويات كما على الشركات السياحية»، وأوصى هذه الشركات بضرورة تنبيه زبائنها إلى «احترام التقاليد الدينية والاجتماعية فى البلدان التى يزورونها مع مراعاة الثياب والسلوك المناسبين فى كل بلد وحماية البيئة». أما فى الجانب الشعبى فقد انتشرت على موقع « وايبو » تغريدات لمواطنين تَكرَّر بينها: «لقد حان الوقت لنرسل لأنفسنا تحذيرا بأننا وقد صرنا أغنى صار سلوكنا أسوأ».

 

واقعة خربشات دينج الصغير على جدارية معبدالأقصر لم تدفع الصينيين إلى التمترس خلف مبدأ «الهجوم خير وسيلة للدفاع» كالذى يجرى عندنا، كما أنهم لم يلتزموا الصمت تجاه هذه الحادثة ولم يهوِّنوا من شأنها، بل كان كل ماجرى من استنفار رسمى وشعبى ودق أجراس التحذير من غرور الثراء ومخاطر الانحدار الحضارى، هو ردة فعل ساطعة تجعلنا نستدعى ماحدث من اقتراح أحد قادة السلفيين طمس الآثار الفرعونية بالشمع لأنها «أصنام»، وتغطية رأس تمثال أم كلثوم فى المنصورة، وتكفين ثم تلطيخ تمثال «عروس البحر» فى الإسكندرية، وتدمير تمثال عميد الأدب العربى فى المنيا. كل هذه الجرائم الحضارية لم نسمع لأهل الحكم الإخوانى فيها ولو همهمة تحتج على وقوعها، برغم أن موقفهم فى هذا الشأن أفضل من غيرهم ممن يرتكبون هذه الترهات باسم الدين!

 

لقد سألنى شاب طيب النوايا عن جدوى الثقافة فى مجتمع يفتقد فقراؤه الخبز وماء الشرب النظيف والمسكن الآدمى، وإجابتى من خلال تلك الواقعة الصينية هى أنه لا تنمية اقتصادية تكفل ذلك كله إلا بتنمية موازية للحس الجمالى عبر الثقافة، تحث على الابتكار وتحفز الإبداع، وقد لمست ذلك بنفسى فى زيارة للصين منذ ثمانية عشر عاما اطلعت خلالها على شىء من البرامج التعليمية المتطورة كما على النشاط الثقافى الشامل والغامر الذى ترعاه الدولة. لكن ماذا تقول عن حكم لدينا أغلب وجوهه تعانى من الجدب الثقافى، كما أن الفريق الذى ينافس هذا الحكم من الفصيل ذاته لا يعانى ذلك الجدب فقط، بل يعادى الثقافة، ويصطنع لهذا العداء أدوات تجافى العقل والذوق ويختلق تأويلات لا أنزل الله بها من سلطان.

 

مصر مهددة لا باستبداد سياسى واجتماعى بأقنعة دينية فقط، بل بانحدار حضارى يستحيل أن تصحبه تنمية منقذة، فلا تنمية بلا إبداع، ولا إبداع بلا ظهير ثقافى، وهذا لايدعو لليأس، بل يحفز على الصمود الحضارى والسلمى فى وجه غوائل التخلف الذى يريد اختطاف البلد فيما يَختطِف الدين ويتجه بالاثنين إلى مهاوى أبئس التأويلات وأتعس المآلات، فاليأس الآن خيانة، لأولادنا، وتاريخنا الحضارى، بل لسماحة وسمو ديننا الإسلامى نفسه، ثم إن أمل النهوض الاقتصادى والاجتماعى لن يكون إلا بقلبٍ نابضٍ بتقدير الإبداع والابتكار والجمال، أى بقلب ثقافى سليم.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .