كنا سعداء فى غزة! - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 2:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كنا سعداء فى غزة!

نشر فى : السبت 4 مايو 2024 - 6:20 م | آخر تحديث : السبت 4 مايو 2024 - 6:20 م

«هل تحتاجون مساعدة؟» صوت ودود بادر بالسؤال ونحن منغمسون فى مشاهدة الفيديو الذى يستعرض صورا من غزة فى بهو المعهد الفرنسى بالمنيرة، التقطها كيغام دجيغليان من بدايات القرن العشرين وحتى نهاية الستينيات. استمع الرجل ذو الشعر الأبيض والبشرة البرونزية إلى بعض من حواراتنا فقرر التدخل بالشرح إذا أردنا، وسرعان ما انضم آخرون إلى الجولة واتسعت دائرة الزوار لنكتشف أنه أفيديس أو «آفو» كما يختصر اسمه للتحايل على صعوبة النطق، طبيب أسنان أرمينى الأصل مقيم فى القاهرة منذ أكثر من خمسين عاما وابن مؤسس أول استديو تصوير فى غزة عام 1944، كيغام دجيغليان، صاحب الأعمال التى نقف أمامها حائرين.

مشاهد المدينة التى صورها هذا الأخير بالأبيض والأسود تأتينا فى شكل قطع متناثرة علينا أن نضعها جنبا إلى جنب ونربط بينها كى نأخذ فكرة عن تاريخ غزة ومجتمعها المنفتح على البحر بكل ما كان يمثله ذلك من تعدد ثقافات. سيدات جميلات بملابس أوروبية فى أماكن عامة وأخريات بأثواب بدوية، حفلات تنكرية، فرق موسيقية، كازينوهات على الشاطئ، طلاب مدارس بزيهم الخاص، محال تجارية عامرة بما لذ وطاب،...  ويعلق «آفو» بلطف مرددا جملة سيكررها عدة مرات خلال الجولة: «كنا سعداء فى غزة!»، مستعيدا ذكريات طفولته بالمدينة التى نشأ وشب فيها.

•  •  •

نتوقف أمام نوعين من المشاهد، الأول يؤكد على أن أهل فلسطين يعيشون سيناريو متكررا منذ قرابة ثمانين عاما: الأطفال يتدافعون على الدور للحصول على المياه وعلى الطعام لأسرهم أمام مكاتب الهيئات الدولية، مخيم الشاطئ يظهر فى الصور ليشهد على مأساة اللاجئين، والدبابات تحاصر المنازل من حين لآخر، والناس يتشبثون بالأمل ويحاولون أن تكون حياتهم طبيعية... فنقول ما أشبه الليلة بالبارحة! ثم نصل للنوع الثانى من الصور التى تؤرخ لأماكن انمحت بالكامل أو تغيرت معالمها أو تمت أخيرا تسويتها بالأرض بعد تشريد قاطنيها حتى صار من الصعب عليهم تحديد موقعهم كلما رجعوا إليها وتقدموا فى السير. وهنا يدفعنا حب الاستطلاع إلى محاولة إعادة بناء مسرح الأحداث، وهو ما فعلته بالنسبة لشارع عمر المختار حيث يوجد استديو كيغام، فقد كان يسكن على بعد حوالى 600 متر من محل عمله، أى إنها منطقة «الخواجة» التى كان له فيها شعبية كبيرة حتى وفاته عام 1981. نرى الشارع كثيرا فى الصور، وهو يمتد بطول المدينة من ميدان فلسطين إلى ساحل الشاطئ، من حى الشجاعية شرقا إلى ميناء الصيادين غربا، ويعد عمودها الفقرى جغرافيا واقتصاديا. كان يشمل العديد من الأسواق مثل سوق القيسارية المختص ببيع الذهب، وسوق بيع الخضراوات الذى يطلق عليه «سوق الموظفين»، وسوق العملة أو تجارة النقود، وينتهى بسوق البسطات، لذا فقد كان وجهة كل شرائح المجتمع بمختلف أطيافه.

من قام بشق الشارع كان جمال باشا السفاح، قائد الفرقة الرابعة للجيش التركى فى الحرب العالمية الأولى، فعرف باسمه فى العقد الأول من القرن العشرين، ثم تغير إلى «عمر المختار» سنة 1934، بمبادرة من فهمى بك الحسينى حين اعتلى رئاسة بلدية غزة. اعترض المندوب البريطانى والقنصل الإيطالى على هذه التسمية لرمزيتها، لكن فهمى بك صمم على رأيه، وقد كان شخصية وطنية وقانونية مميزة. ونظرا لقدم الشارع الذى جاء بناؤه بالفعل على حساب أجزاء من مواقع أثرية مثل جامع الوزيرى وخان الزيت، فقد حوى منشآت عتيقة مثل حمام السمرة ومقر البلدية.

•  •  •

بالطبع يتابع «آفو» على الشاشات ما لحق بشارع طفولته من دمار واسع أخيرا، لكنه يتمسك فى خياله بالصور التى عاصرها والتى يُعرض بعضها فى المعهد الفرنسى حتى 12 مايو الجارى. يتعرف فى إحداها على خالته، ويحدد أنها ليست فعليا شقيقة والده لكنها فتاة أرمينية تربت معه وصارت بمثابة أخت له. «كنا سبع عائلات من الأرمن فى غزة نعيش تقريبا معا». هرب أبوه طفلا بصحبة والدته من مذابح الأرمن عام 1915، ووصل إلى سوريا ثم استقر بعدها فى القدس قبل أن ينتقل إلى غزة فى مطلع الأربعينيات ويؤسس «فوتو كيغام» ليصبح الأب الروحى للمهنة فى المدينة الساحلية التى لم تشتهر بمصوريها البارعين مثلما القدس. وربما لكونه نازحا اهتم أكثر بتسجيل كل شىء، فهو نفسه ينتمى لشعب تعرض لإبادة جماعية، واختار أن يروى قصة شعب آخر يتعرض لإبادة جماعية.

يشير الابن إلى طبيعة والده المغامرة، فقد كان يقيم «السواتر» فى شرفة البيت لكى يلتقط من خلفها صورا تدين أعمال الاحتلال، وكان الوحيد الذى وثق مجازر خان يونس ودخول الدبابات الإسرائيلية قبل انسحابها بعد عدة أشهر، ولم يفرق بين المستويات الاجتماعية المختلفة فصور العائلات الغنية والفقيرة، داخل وخارج الاستديو.

يتذكر «آفو» جيدا ذلك اليوم الذى أراد أن يختبئ فيه وراء الساتر أعلى الشرفة ليراقب حركة الجنود الإسرائيليين فى الشارع، وكادت تصيبه رصاصة تفاداها بسرعة وظل أثرها باقيا فى الجدار. يُحصى الشخصيات المشهورة التى صورها كيغام والتى نراها فى المعرض: الرئيس المصرى محمد نجيب، الممثل يول براينر، الثائر شى جيفارا، أحمد الشقيرى أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، الحاكم العسكرى المصرى لغزة خلال العهد الناصرى... وقد نال قصره الذى نشاهده فى الصور نصيبه من الدمار، إضافة إلى مبنى السرايا الحكومى.

لم يرغب الأب فى أن يأتى للاستقرار فى مصر كما فعل أبناؤه، بل مكث فى غزة حتى مات ودُفِن فى القدس إلى جوار زوجته كما أوصى. وبعد رحيله آل الاستديو إلى مساعده موريس الذى كان يعده فردا من العائلة، وبعد وفاة هذا الأخير استلم الراية من بعده أخوه مروان الطرزى الذى نشاهده فى الفيديو والذى اشتهر بلقب «حارس أرشيف غزة» لامتلاكه كنزا من الصور، لكنه استشهد فى السابع عشر من أكتوبر الماضى عند لجوئه مع أسرته لكنيسة بورفيريس للروم الأرثوذكس. ربما فُقِد أرشيفه أو ذهب بغير عودة، كما لحق الدمار بأرشيف البلدية المركزى وأرشيفات الجامعات، فهذا شعب يُسلب منه تاريخه وحاضره.

 

التعليقات