فـِتـنة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 1:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فـِتـنة

نشر فى : الخميس 27 ديسمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 27 ديسمبر 2012 - 8:00 ص

قال سبحانه وتعالى:

 

فى سورة الإسراء، الآية 70: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).

 

 وفى سورة الحج، الآية 46: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ).

 

وتقول الحكاية الأرضية:

 

أكثر من 350 مليون سنة من الصمود الأسطورى تداعت منهارة بمجرد نظرة إلى ذلك الألق الأخضر المزرق العميق الصافى، ألق الزمرد، دون أن يكون هناك زمرد، بل مجرد فخٍ لونىٍ من كائن ضئيل يتمتع بالجرأة والشراسة، فيوقع بكائن فى أضعاف حجمه لم تهزمه جوائح الانقراض الكبرى، التى قضت على برمائيات ما قبل التاريخ العملاقة والمفصليات الخرافية فى العصر الكربونى، ومحت جبابرة الديناصورات فى العصر «الجوراسى». ولم تكن لحظة التداعى هذه إلا مقدمة لواحدة من أغرب وأبشع تراجيديات صراع الكائنات على يابسة كوكبنا الأزرق السماوى، الأجمل والأكثر مدعاة للشعور بالسلام والرحمة، ليس فى مجموعتنا الشمسية وحدها، بل فى مجرة «درب التبانة» كلها، وربما فى ظلمة الكون الفسيح الذى نعلم، والذى نهجس بوجوده، والذى نجهل.

 

 إنها لحظة المواجهة بين صرصور ضخم ودبور زمرد EMERALD WASP صغير الحجم، وليس هناك ما يفسر بالقطع سر جمود الصرصور أمام مفترسه التقليدى الضئيل ذاك، فالصراصير تمتلك هبات خاصة أهلتها لعبور جوائح كل هذه الملايين من السنين ليواصل جنسها الحياة، بل يتردد أنها مرشحة لوراثة الأرض بعد انقراض البشر وهلاك معظم الحيوانات، فهى قادرة على العيش دون طعام لشهر كامل، ودون ماء لمدة أسبوع، وبلا هواء لثلاثة أرباع الساعة.. تتزاوج إناثها مرة واحدة فى العمر فتظل تنجب ما حَيَت، وتتحمل 15 ضعفاً من جرعة الإشعاع النووى القاتلة للإنسان. أما براعة الهروب أمام الأخطار، فلعلها أعجوبة الصراصير الأكثر إثارة للدهشة، وسر أسرار نجاتها فى عالم كامل يطاردها، إما للإبادة امتعاضاً، أو للإبادة افتراساً، فهى تستشعر الخطر من أى صوبٍ جاء، بفضل عقدة من الخلايا العصبية تمتد خيوطها من عمق دماغها حتى طرف الذنب، فتفِرُّ بِردِّ فعل عصبىٍ بارِق، لتعثر بسرعة البرق على أقرب مخبأ تتوارى فيه، مهتدية بقدرة حسابات فائقة الدقة والسرعة، ترشدها إلى أخفى وأقرب مكامن اللَّمة والظلمة، لمة أقرانها القابعين فى شق من الشقوق، أوظلمة ثقب تلوذ به، وهى قادرة على تقليص حجمها إلى العُشْر لتتوارى فى أضيق نطاق يخفيها. فلماذا لم يبادر الصرصور بالفرار حين باغته ظهور مفترسه التقليدى العجيب: دبور الزمرد ؟ بل أنثى دبور الزمرد!

 

دراسات سلوك الحيوان تقول إن الألوان لدى كثير من الكائنات هى لغة وكلام، ومن الكلام كثيرٌ مما يَبرُق ولا يَصدُق، بل يخدع، كذلك لغة الألوان. فما بالنا بلون الزمرد الألاَّق الفاتن، لون الأنثى من دبابير الزمرد المرصعة أرجلها بشىءٍ من وهج حمرة الياقوت، والتى لا تُضيِّع فرصة جمود الصرصور أمامها، فتثب وثبة نمر أو فهد على فريسة، لكنها على غير ما يفعل النمر والفهد لا تقتل الفريسة، بل تُخدِّر جزءاً منها يشل حركتها، تمهيداً لإجراء عملية كبرى عجيبة المآل، فأنثى دبور الزمرد تمسك بالصرصور من عنقه وتستدير على رأسه بذيلها المتألق البديع، وفى نقطة أسفل دماغ الصرصور قرب العنق تغرس إبرتها اللاسعة، وتحقن سمها بجرعة صغيرة فى العقدة العصبية الصدرية، فينتفض الصرصور مدركاً هول الآتى، لكنه يعجز عن الفرار، بل يهمد ساكناً بعد أن تخدَّرت أرجله الأمامية وتحول إلى كسيح، إلى حين.

 

بعد هذا التخدير القدير باللسعة الأولى والتى تشبه تخديراً نصفياً عبر النُخاع الشوكى، تأتى اللسعة الثانية الحاسمة التى تجعل البعض يمنحون دبورة الزمرد لقب «أمهر جراح مخ فى العالم»، فهى توجه إبرة سمها إلى نقطة محددة فى مخ الصرصور، لا تزيد على جزء من الملليمتر لكنها تختزن كل «برامج» رد فعل الهروب ESCAPE REFLEX، فيُسلم الصرصور نفسه للزمردية الضئيلة دون إرادة، ويكون أول ماتفعله الزمردية به، أن تقضم بعضاً من أحد قرنى استشعاره، «شواربه»، ويُرجَّح أنها تفعل ذلك ليتسرَّب بعضٌ من السم الزائد الذى حقنته فى دماغه حتى لايموت، فهو إن مات يتفسَّخ جسمه ويفسد بعد يومين، بينما تريده حياً، حتى آخر لحظة فى مُخطَّط مذهل التدبير، تُضمِره.

 

ومن بقية قرن الاستشعار، أو فردة الشارب المقصوص، تسحب الزمردية فريستها الصرصور بعد أن يزول أثر التخدير عن قوادمه، فيتبعها مسلوب العقل والإرادة نحو مخبئها، تُدخِله وتغلق عليه المخبأ، لا لتمنعه من الهروب، فهو لن يهرب أبداً بعد أن محى سُمّها برنامج النجاة فى مخه، بل لتمنع مفترسين غرباء من التهامه. ولأنها تكون حاملاً ببيضها عادة ودائماً، فهى ترشق هذا البيض فى جسم الصرصور الحى، ليفقس، ومنه تخرج اليرقات فتجد غذاءها الطازج فى أرضها الحية، تلتهم نسيج الصرصور الحى حتى لا يتبقى منه غير غلافة اليابس، وتتحول اليرقات إلى حوريات فى حوافظها داخل هذا الغلاف، ثم تخرج من حوافظها دبابير زمرد يافعة، تشق طريقها عبر أجداث ما كان صرصوراً، وتنطلق فى الحياة لتكرر إناثها سيرة الأمهات، تفتن مخلوقات تفوقها حجما بعدة مرات، صمدت فى مواجهة الطوفان والأعاصير وفوران البراكين والقصف الذرى والجوع والعطش والغرق، لكنها تتجمد مفتونة أمام زيغٍ لونيٍّ أخضرٍ مُزرقٍ ألَّاق، فينخطف عقلها ثم يتسمَّم، وتصير أجسامها حاضنة لمن سينهشونها حية، حتى آخر الفجيعة، حتى ثمالة الموت.

 

انتهت الحكاية ومع ذلك ستظل تتكرر ما تكررت الفتنة، وما تكرر الاقتناص البادئ بتدمير الأمخاخ فى عالم الحشرات، لكننا لسنا حشرات، نحن بشر، أو هكذا ينبغى أن نكون.

 

وعلى هامش الحكاية أقول:

 

 • عندما يتحول اعتصام سياسى مهما كان صدق أصحابه إلى بضع خيام فى ميدان بلا حشد أو تحت سور لقصر يتعامى ويتصامم، فإن الاعتصام يصير هدفا سهلا للاقتناص، ونقطة استقطاب للتشويه من خصوم يحترفون الكذب، وفى النهاية يتحول إلى بؤرة تجتذب ضائعى الشوارع ومن ليس لهم أية علاقة بالثورة، وعندها يضرب المكر والغدر ضربته، بمباركة من عموم الناس المخدوعين أو المُنهَكين، وتخسر الثورة سلاحا من أمضى أسلحتها، سلاح لاينبغى أن يُشْهَر إلا بضمان حشد الآلاف فيه. فيا أيها المعتصمون فى هكذا خيام معزولة، فكوا خيامكم، وابحثوا عن الحشد، حتى لاتصيروا مجرد براءة ثورية ضائعة فى محيط من اللؤم السياسى المُخادِع، أو ضحايا بالمجان يتغذى بهم الكذب، وتلتهمهم العدمية.

 

• ثلاث مؤسسات تستحق كل الانتباه وغاية التضحية للحفاظ عليها كمؤسسات وطنية حافظة لدولة كل المصريين، لا بعض المصريين، القضاء والشرطة والجيش، فهى إن سقطت فى قبضة طيف واحد، طائفى أو مذهبى أو سياسى، فهذا سيعنى سقوط الدولة الوطنية، وظهور دولة الاستبداد الطائفى أو المذهبى أو السياسى، وهى دولة لا تنهض بدُنيا ولا تتسامى بِدِين.

 

 • ليس صحيحا أن الجيش مهمته الوحيدة هى حماية البلاد ضد أى عدوان خارجى، بل أيضا حماية البلاد ضد أى عدوان داخلى يريد الانقلاب على مقومات الدولة الوطنية التاريخية، وهى فى مصر دولة الوسطية والتسامح والتعايش بين بنيها، لا تفرق بينهم فى حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، وتنفتح بلا ضرر ولا ضِرار على العالم وروح العصر. هذه أيضا شرعية يُناط بالجيوش الوطنية حمايتها.

 

 • ما سبق قوله عن مؤسسة الجيش الوطنى يصح قوله أيضا عن مؤسسة الشرطة الوطنية، فكلاهما من مؤسسات القوة، وشرفهما أمام الله وأمام ضمائرهم أن يكونا قوة من لا قوة له، أو بالأحرى من يرفض استخدام القوة ضد الآخرين، ويحتكم إلى العدالة وسيادة القانون، فى دولة عمرها من عمر فجر الضمير، ومن العار أن تصير غابة ميليشيات وهمجيات وفوضويات، كلها آثمة، ومن أى اتجاه تكون.

 

• فى مصر فريقان سياسيان لا ثالث لهما مهما تعددت اللافتات والرايات والأقنعة، فريق الديمقراطيين القابلين بمبدأ تداول السلطة، وفريق اللاديمقراطيين الذين يركبون الديمقراطية لتوصلهم إلى سلطة استبداد لا تقبل التداول، وللتفرقة بينهما ابحث عن العنف، وهو لن يكون فى جراب الفريق الأول. أعتقد أن الديمقراطيين أكثر، لكن اللاديمقراطيين أَكْذَب.

 

• من حق من يحتكم إلى العقل والمنطق السوى، أن يتساءل عن غرابة توزيع الناخبين على اللجان حيث تكون إحداها لا تزيد على سبعمائة ناخب، فيما تكون أخرى مكتظة بسبعة آلاف، لابد من مراجعة المؤشرات التصويتية السابقة على الاستفتاء، وطرح السؤال الواجب طرحه: هل هى لعبة انتخابية غير نظيفة لإجهاد الناخبين وإجهاض اتجاه التصويت بلا فى المناطق ذات التوجه الرافض؟ أيا ما تكون الإجابة، فإن القادم من الانتخابات لابد من توافر الضمانات فيه، وأول هذه الضمانات أن تبتعد يد من يمسك بالسلطة عن اللعب فى توزيع الدوائر، فهذا تزوير سابق التجهيز، مشين لمن يمارسه، ولمن يقبل به كذلك.   

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .