من أين يأتى الجمال؟ (رَوْحة صيفية) ــ 1 - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 3:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من أين يأتى الجمال؟ (رَوْحة صيفية) ــ 1

نشر فى : الخميس 22 يوليه 2010 - 11:48 ص | آخر تحديث : الخميس 22 يوليه 2010 - 11:48 ص

 بينى وبين اللذيذة أنجلينا جولى غرام خاص مشبوب، ليس من طرف واحد كما يتبادر إلى الأذهان، بل هو غرام من طرفين، أسفر عن نفسه عندما ذهبت أنجلينا إلى «ركن الرياح» لتضع مولودتها «شيلو»، مديرة ظهرها الجميل لكبريات مدن العالم التى هى رهن بنانها الساحر، وقد فعلت بالضبط عكس السلوك الذى يتبعه النافذون والنوفو ريش لدينا، أو حكام وبليونيرات زمن الغفلة، الذين يرسلون بزوجاتهم وبناتهم الحوامل، ليلدن فى بلدان أوروبية أو أمريكية بعينها، حتى يحصل المولود على جنسية البلد الذى وُلِد فيه، ويمنح أباه وأمه جنسيته بالتبعية، وإخوته وجدته وجده بالتتابع، ومن ثم يتوافر ملاذ مستقبلى للعائلة، التى تريد إلحاق أولادها وأحفادها بمجتمعات «راقية»، وتلتحق هى بالثروات المنهوبة من الأوطان «المتخلفة»، والمودعة فى حسابات سرية ببنوك أوروبا وأمريكا.

لم تفعل لذيذتى أنجلينا هذه القباحة، بل ذهبت وهى حامل فى شهرها الأخير، بصحبة زوجها، غريمى «براد بت»، إلى عاصمة ناميبيا «وايند هوك» والتى تعنى «ركن الرياح» بلغة الأفريكان، أى الأوروبيين الذين تفرقوا بعد هبوطهم واستوطانهم لسواحل أفريقيا الجنوبية منذ القرن الخامس عشر، ومن وايندهوك اتجهت أنجلينا إلى منتجع جميل صغير فى قرية بمنطقة «أيرونجو» لتضع مولودتها «شيلوه نوفيل» مساء السبت 27 مايو 2006 فى هذا البلد الجنوب أفريقى الساحر، فى تعبير ساطع وقاطع، عن العاطفة التى تربط بيننا، أى الغرام المشترك ببلد خلاب، لعلنى كنت أول كاتب وصحفى عربى يصل إليه ويكتب عنه، متقدما على «النيوزويك» العالمية فى استطلاع مجلة العربى الذى عنونته: «جوهرة أفريقيا المنسية»، والذى سبق بستة أشهر كاملة تحقيق النيوزويك المعنون «مكان نظيف حسن الإضاءة»، وهو عنوان إحدى قصص هيمنجواى القصيرة الشهيرة.

ولا أعرف بالضبط من أين استقت جولى اللذيذة معلوماتها عن ناميبيا، لكن اوهام المُحب لا تستبعد احتمال أن تكون قرأت استطلاعى أنا، وأيا كان مصدر معلومات أنجلينا وبراد بت، فالثابت أن تقديرا بالغا قد استقر لديهما، كما لدىّ، لهذا البلد الذى تُقارِب مساحته مساحة مصر ويعيش فيه مُجرَّد مليونين من البشر، ويتمتع بجمال طبيعى فائق، وتنوع بيئى نادر، وحداثة عميقة الحكمة ودافئة الألوان، ونظافة ليس لها نظير.

لقد ذهبت إلى ناميبيا وهى بالكاد تمسك بطرف تحررها من ربقة الحكم العنصرى الذى رزح على صدرها طويلا، وشهدْتُ الاحتفال بتحرير آخر قطعة من أرضها فى ميناء «بيرليتز» الذى كان نظام جنوب أفريقيا العنصرى قد وضع يده عليه.

وقد سحرتنى العاصمة المسماة بركن الرياح «وايندهوك»، وإن كنت وقت زيارتى لم أشعر فيها بأى عصف للرياح، بل بسكينة مضيئة، وملونة ببهجة عمارتها الخلابة البعيدة كل البعد عن عجرفة المدن الغربية الكبرى، زرت الدكتور بيتر كاتشافيفى مدير جامعتها الأنيقة التى تجرى فيها بحوث بيئية متقدمة ومرتبطة بمصادر البيئة المحلية المتنوعة، من سواحل تطل على المحيط الأطلنطى، وصحارى تسرح فيها الظباء والنعام وقبائل البانتو التى لا تزال تعيش على الفطرة، والغابات التى لا مثيل لنقائها العاطر وتكامل مخلوقاتها، والتوازن المرهف فى تكويناتها النباتية والحيوانية.

همت عشقا بمدينة صغيرة على ساحل الأطلنطى اسمها «سواكابوند»، شىء مذهل الأناقة واللطافة والجمال ومفرط النظافة التى يحرص عليها ساكنوها، وتؤكدها موجات الأطلسى التى تغسل أطرافها بشغف، وتدعمها أمطار دافئة نقية.

شواطئ كانت محورا غراميا بما تزخر به من محميات لطيور الفيلامنجو ومستعمرات تزاوج الفقمات. مدينة صغيرة بأبنية جرمانية الطراز لا تزيد على طابقين، وجنبات زهور فى كل مكان، وبشر متعددو الأعراق يعيشون فى وئام حقيقى صادق، بيض، وسود، وهنود، متعددو الأعراق والأديان، لكنهم متناغمون فى سلام جميل داخل النسيج الناميبى الذى تخلص من الاستعمار العنصرى، ولم يقع فى مصيدة رد الفعل المتعصب أو الانتقامى، فصان جمال ومتانة هذا النسيج، وصان البلد الخلاب، بإرادة إنسانية وحضارية مدهشة، لعل أهم ملامحها قرينة الجمال كانت: النظافة!

النظافة بمعناها الطبيعى والمدنى أمر بديهى فى ناميبيا، أما النظافة التى رأيتها خلف كل تلك النظافات وعبرها، فهى النظافة السياسية، نظافة تفكير وسلوك ثوار جبهة «سوابو»، رفيعو الثقافة والتعليم، الذين حرروا البلد من الاستعمار العنصرى بدعم شعبى فائق التحضر، فلم يتماهوا مع جلادهم السابق بسلوك مماثل ولاحق، بل حافظوا على البنى الثقافية والاقتصادية الزراعية والصناعية والبيئية التى أنجزها المواطنون البيض «الأفريكان»، وتركوا كل شىء جيد على حاله شرط أن يؤدى كل طرف واجبه تجاه الأغلبية السوداء التى طال حرمانها، بالقانون، وبالحق، وبالعدل، وبالمحبة، وكان أهم ما فى هذه التوجهات السياسية النظيفة، هى الشفافية، شفافية مذهلة وتحديدا فيما يخص ممارسات الحكام الجدد، ثوار الأمس، وعلى رأسهم «الدكتور سام نوجوما» القائد الثورى السابق، وأول حاكم لناميبيا الجديدة بعد استقلالها.

حرص شديد على كل هِبة طبيعية يملكها هذا البلد، وبراءة زمة ونظافة يد مذهلين، وعلنيين، وقد تابعت فى الصحف حين كنت هناك، ما يشبه كشف حساب مالى ودورى لكل مسئول، ومعظمها كان قروضا متواضعة لا يتعدى الواحد منها ألفى دولار لوزير أو مسئول حزبى لتعلية حجرة فوق منزل بسيط، أو شراء سيارة صغيرة مستعملة.

أما فى مجال البيئة، فلم يبيعوا أرضا، ولا خربوا محمية، ولم يغلقوا ساحلا بمنتجعات خرقاء برغم أن بلدهم يمكن أن يكون بلدا سياحيا فى طليعة أهم البلدان السياحية فى العالم، وكانوا فى حالة استنفار صادق وجاد لحماية الطبيعة الخلابة للغابات التى تنبسط على سطوح الجبال، وتلك التى تترامى فى الوديان، وكانت هناك معركة مستمرة ضد فساد دميم أراد أثرياء العالم أن يمدوه نحو شواطئ المحميات البحرية، خاصة ملاذات حيوانات الفقمة، التى كان قناصون دوليون يردونها فى الظلام برصاصات من الفضة حتى لا يتشوه فراؤها النادر الذى تفضله حيزبونات فسدة العالم، كما لم يعدم عواجيز الفسدة نصيبا فى هذا الصيد المجرم، إذا كانت تجتث أعضاء ذكورة هذه الفقمات وهى حية! لتُجفَّف ويُصنع منها سفوف يشفطه شفاطو «العالم الثالث»، لعله يعيد للمستفحلين على شعوبهم ومجتمعاتهم فحولة آفلة لا تستعيدها سطوة ولا ثروة ولا حبوب زرقاء. وكان حكم ناميبيا رائع الشفافية يخوض حربا حقيقية ضد عملاء هؤلاء المستفحلين المتسللين إلى ملاذات هذه الكائنات بريئة العشق، تحت جنح الظلام!

لم أر ظلاما فى الحكم الناميبى عندما كنت فى ناميبيا، وبمتابعتى المتاحة أعتقد أن النور والنظافة والشفافية مازالا يعملان هناك، ليس بدليل ما عبّرت عنه إرادة أنجلينا اللذيذة وبراد بت الموهوب فى التشرُّف بوضع ابنتهما هناك واكتساب شرف الانتماء إلى هذا البلد الجميل النظيف، بل لأننى علمت مؤخرا أن كل ذلك يعمل لايزال، ودليل استمراره وفاعلياته هو تداول السلطة، فسام نوجوما أبو التحرر الوطنى وأول رئيس أسود لناميبيا، لم يستمر فى التشبث بالحكم الذى كان يستطيع أن يستمر فيه بسهولة وباختيار شعبى حر، بل اختار أن يجدد الحكم دماءه حتى لا تتخثر فى عروق البلد وتسدها وتميت فى داخلها ما تميت، أفسح الفرصة لتداول سلمى وديمقراطى حقيقى للسلطة، وعاد هو إلى عمله فى الجامعة التى كان أحد أساتذتها. أليست هذه قمة النظافة؟

نظافة تحافظ على النظافة وتصون الجمال، ولكم أحلم بأن تهبط علىّ ثروة مفاجئة فأفاجئ روحى ومن أحب برحلة إلى هذا البلد الجميل، البلد الذى شكّل غرامى المشترك بالخاطر والتخاطر مع اللذيذة أنجلينا جولى، وجولى بالمناسبة هو اسمها الأوسط الذى يعنى «الجميلة»، وهى جميلة بالفعل، ليس جمال الكَسم والرسم وحدهما، بل جمال الروح الذى حوّل بيتها إلى أمم متحدة صغيرة تضم إضافة إلى أبناء بطنها اللطيف ثلاثة أطفال ممن شردتهم حروب العالم البائس، مادوكس من كمبوديا، وباكس تين من فيتنام، وزهراء مارلى من إثيوبيا.

أنجلينا التى صارت سفيرة نوايا حسنة، بجد، للأمم المتحدة، تنفق من جيبها الخاص على زياراتها التفقدية لمخيمات اللاجئين فى لبنان والصومال وكينيا وأفغانستان والعراق حاملة معها شحنات بالأطنان من الأدوية والأطعمة والأغطية والثياب، ومتبرعة بما مجموعه عشرين مليون دولار من مالها الخاص للاجئى العالم ولدعم منظمة أطباء بلا حدود وصندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة.

وأظن أن اعترافى العلنى بملابسات هذا الغرام، لن تترك فرصة للالتباس لدى «الجماعة»، ليست الجماعة المحظورة طبعا، بل الجماعة المشروعة، التى ستكون، بالطبع، على رأس الزيارة الحلم، لمكان جميل نظيف حسن الإضاءة اسمه «ناميبيا»، جوهرة أفريقيا التى لا أستطيع نسيانها.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .