نذيرٌ ونَفير - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 10:30 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نذيرٌ ونَفير

نشر فى : الخميس 14 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 14 مارس 2013 - 8:00 ص

كنت أكتب مقالة هذا الأسبوع عن «الغابة والدولة» من واقع ما أطلَّ من مُضمَرات شريرة لاستبدال الشرطة بميليشيات وشركات أمن خاصة مسلحة فى مخطط هدم الدولة المصرية التاريخية لإقامة غابة تطرف وتخلف على أنقاضها، وحادثنى الصديق العزيز الدكتور عمرو سرحان عميد كلية طب المنصورة الأسبق الذى تسعدنى مكالماته فى اللحظات الوطنية الحرجة لأنها تضيف لكلينا أبعادا للرؤية جديدة، فهو مثقف وطنى عقلانى غير مُستقطب أيدلوجيا، وأنا أحب أن أكون كذلك، وذكَّرنى الدكتور عمرو فيما كنا نتبادل الأسى حول مشاهد إحراق مبنى اتحاد الكرة ونادى ضباط الشرطة بالجزيرة، بمقال كتبته مستدعيا فيه ذكرى حريق القاهرة، وعندما عدت إلى المقال المنشور فى 2 ديسمبر 2010 تحت عنوان «سُكَّر محروق»، هالنى أن ما فيه عن الحكم السابق وسياساته الإقصائية النابذة لغالبية أبناء الأمة، يكاد ينطبق على الحكم الحالى للإخوان، ويفسر ظاهرة «هوس إشعال الحرائق» المتكررة كتعبير عن الشعور بالاغتراب الذى يعانيه عموم الناس بفعل سياسات الإقصاء والتهميش والاستغفال والعناد من فريقٍ أنانيٍّ حاكم، وحريق القاهرة عام 52 لم يكن إلا تعبيرا عن مثل هذا الشعور بالاغتراب والجنوح للتدمير لدى عوام الناس، بل حتى عمومهم، وما أسهل أن يستغل هذا الشعور لئيمٌ أثيم يندس وسط الجموع الغاضبة ليطلق الشرارة الأولى فيجتذب النيران المشتعلة فى الصدور لتتحول إلى مشاعل إحراق مادى، لهذا أعيد نشر المقال إلا قليلا مما لا يُغيِّر الجوهر ويحافظ على مساحة النشر. وذلك المقال الذى نُشر قبل ثورة 25 يناير بأقل من شهرين ربما كان مع غيره تحذيرا ونبوءة، ولعله يكون الآن تنبيها لفريق الإخوان الحاكمين المندفعين بعمى سياسى غير مسبوق فيما يتصورونه تمكينا لذواتهم، وما هو إلا تمكين لما سيحرقهم ويحرق معهم الأمة، ولا يحسبون أن ظواهر مثل مواكب استعراض القوة المتطرفة فى إحدى عواصم الصعيد تحت مسمَّى «الشرطة الشعبية» ــ نصيرا لهم، بل نذير. كما أتصور أن يكون هذا النذير نفيرا لاستدعاء أقصى يقظة واجتهاد كل من يرفضون هدم الدولة المصرية التاريخية، المدنية الوسطية المتسامحة المنفتحة الجامعة، ولا أتحرج من القول بأن مؤسسات الجيش الوطنى والشرطة الوطنية والقضاء الحر، هى فى مقدمة القوى المصرية التى يستدعيها هذا النفير، لأنها أهم أعمدة الدولة المصرية التى يُراد هدمها، بوعى شقى أو لا وعى أعمى.

 

سُكَّر محروق

 

 «ظهر يوم السبت 26 من شهر يناير 1952 انتفضت الجماهير الغاضبة فى الشوارع الشهيرة بوسط المدينة مثيرة فيها الشغب مضرمة النيران فى كل الأماكن التى يرتادها الأجانب ويسكن فيها الأثرياء والمترفون، دور السينما والبنوك، والنوادى الخاصة والمتاجر الكبيرة الضخمة الفخمة ومكاتب شركات الطيران والمقاهى الكبيرة والكباريهات وكل ما يجعل القاهرة «باريس أفريقيا» وأكثر المدن الجاذبة للأنظار على وجه الأرض.

 

 ومن دواعى الأسف، أن هذه الأماكن قد نجحت أيضا فى إثارة الإحساس بالغربة لدى الفرد العادى، فشعَر القاهريون أن تلك البلاد ليست بلادهم، كانت معظم محال القاهرة حتى حلوانى جروبى تفوق الإمكانيات المادية لأولئك الذين لم يكونوا أجانب أو أغنياء أو يهودا، ولم يكونوا يلقون الترحاب فيها أو ما شابهها، فضلا عن عدم قدرة معظمهم على دفع قيمة ما يباع فيها من سلع وبضائع ولهذا السبب ربما اعتُبر جروبى هدفا من أهداف الجماهير الثائرة فدمَّر الثائرون وأحرقوا تقريبا كل المؤسسات الرئيسية التى لها علاقة بالإنجليز أو الفرنسيين أو اليهود وأضرموا النيران فى جروبى وسرقوا الختم الملكى من على واجهة مطعمه، ولكن بعد أن أخرجوا العاملين به والذين كان من بينهم رئيس الطهاة والخباز إلى حيث الأمان، ومن ثم فقد كانت الضحية الوحيدة لذلك الحريق هى المؤن اللازمة لإعداد الحلوى والتى تمثلت فى عشرات الأجولة من الدقيق الفاخر والسُكَّر والتى كان الغوغاء يقومون بحملها إلى الخارج مضرمين فيها النيران. وكل من شهد تلك الليلة المروِّعة من سكان القاهرة ستظل ذاكرته تستدعى رائحة الهواء المعبأ بالسكر المحروق».

 

 لقد توقفت أمام ذلك المقطع (من رواية «الرجل ذو البدلة الشركسكين» للكاتبة الأمريكية مصرية الأصل «لوسيت لينداو») الذى يتحدث عن حريق القاهرة، لأنه يضيف شهادة ليست جديدة فى محتواها، لكنها جديدة المصدر وزاوية الرؤية، النفسية تحديدا، فلقد فاجأنى تماما أن الكاتبة اليهودية الأمريكية ذات الأصول المصرية البعيدة، كانت مبصرة بحقيقة الاغتراب الذى تخلقه حرمانات أبناء البلد العاديين فى مدن بلادهم التى كان يتسيدها الأجانب والمترفون المصريون، واليهود الذين كان معظمهم يجمع بين الصفتين فى الوجدان الشعبى المصرى. اغتراب تجدد برغم أن القاهرة لم تعد مرتعا للأجانب ولا لليهود بالمعنى الذى كانت عليه إبان حريق القاهرة كما وصفته الكاتبة، فلم يعد من هذا المثلث الذى ذكرته الكاتبة غير ضلع واحد، مصرى، أعاد تكوين مثلث الاستفزاز بضلعين آخرين، مصريين أيضا، أولهما الفساد الذى تُفشيه سياسات آثمة، وثانيهما القهر بالقوة والتلاعب بالقانون لحماية هذه السياسات، سواء عن قناعات خاطئة أو بأنانية قصيرة النظر وعمياء البصيرة، فهل صفة المصرية لصانعى مثلث الاستفزاز الجديد مما يمكن أن يزيد من شعور عامة المصريين بالاغتراب أم يقلله؟

 

 أظن أن الإجابة يمكن أن تنبع من الحقيقة الشعرية العربية القائلة: «وظلم ذوى القربى أشد مضاضة ــ على النفس ــ من وقع الحسام المُهنَّدِ»، وبغض النظر عن زيادة أو نقصان مشاعر الاغتراب لدى المصريين مقارنة بما كانت عليه إبان حريق القاهرة، فالمهم أن مشاعر الاغتراب موجودة، وتتجدد باندفاع يشى بقصر نظر صانعى هذا الشعور بالاغتراب لدى مجمل المصريين، وليس أدل على ذلك من حالة الإقصاء السياسى الفظة والسافرة التى أظهرتها الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب ومن قبله مجلس الشورى. والتى لا يمكن لمتابع عادل إلا أن يشهد بزيفها، ليس فيما هو شائع عن ملابسات التزوير وحماية المزورين فقط، بل فى اصطناع شروط يستحيل أن تحقق أى عدالة انتخابية أو تحرير لإرادة المواطن ليُحسن الاختيار بوعى، وبتعفف عن مهانة رشاوى اللحمة والفياجرا والموبايل والعيدية، وبترفُّع عن عصبية القبيلة والعائلة والعشيرة والرَبع. ولم يكن ذلك كله مستحيلا لو كانت هناك إرادة حضارية وبصيرة تدرك أهمية الاستقامة فى التنافس السياسى لصالح الأمة، لا لصالح فريق أنانى يكرر نفسه بلا أى تبصُّر، ظانا أنه بذلك يكون منتصرا، وهو فى رأيى من الخاسرين. لماذا؟

 

 لابد أن أؤكد أولا أن الحرمان هو الحرمان، سواء كان متأتيا عن طريق الاحتكار السياسى أو الاقتصادى لفريق بعينه، وهذا الفريق المصرى الذى لم يكف عن الجئير بنشيد «الاستمرار والاستقرار»، هو بأدائه قصير النظر وكليل البصيرة، كرَّس ويُكرِّس واقعيا للقطيعة والاضطراب، وهذا ما أراه من زاوية نفسية على الأقل، لأن هذا الإقصاء الواضح للرؤى المختلفة فى اجتهاداتها من أجل نهضة أمة فى مأزق، مأزق شامل لا يمكن أن ينقذها منه فريق واحد تراكمت أخطاؤه وخطاياه، إنما يضرب الشعور بالهوية لدى قطاعات واسعة من المصريين العاديين، وليسوا المشتغلين بالسياسة من المعارضين الذين خالفوا سلامة الحس وصدق التوجُّه بدخولهم فى هكذا مَكْذَبة، فهؤلاء لابد لمعظمهم من وقفة بعد كل ما جرى، لأن أغلبهم كانوا طلاب قوة لاحق، تماما مثل من أقصوهم ولم يكونوا إلا طلاب قوة لا حق، وإن اختلفوا فى الادعاءات والوسائل!

 

 هذه المَكْذبة السياسية التى صُمِّمت ونُفِّذت ليظل فريق واحد فى موقع الاحتكار شبه المطلق للسلطة والتسلُّط، كانت ضربة إضافية للشعور بالهوية لدى الأغلبية من المصريين العاديين المتعطشين للتغيير وتحسين الأحوال دون أن تكون لهم مطامع ولا أحلام فى أية سلطة. والهوية كما يعرفها علم النفس الاجتماعى هى شعور يتكون من معطيات يستقى منها الفرد معنى لقيمته ووجوده فى الوسط الذى يعيش فيه، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو بحصوله على هذا المعنى لقيمته كفرد فى مجتمع وفى أمة، يشعر بتكامل مستقبله مع ماضيه ومع الحاضر الذى يعيشه، وينخرط بدرجة أو بأخرى فى حالة من الاتساق الاجتماعى التى تصنع الاستمرار والاستقرار الحقيقى فى أى مجتمع، لا ذلك الاستقرار والاستمرار الذى صدَّعتنا وستصدِّعنا به جوقة الأناشيد الكذوب! كيف؟

 

لنأخذ الإنسان الفرد، المواطن العادى من الأغلبية التى لاتزال صامتة وتحتمل ما تعانيه فى صبر كظيم، فهو عندما يجد أن هناك حلقة ضيقة من ذوى النفوذ، تستأثر بكل القرارات التى تؤثر فى حياته، ولصالح امتيازات هى فى مجملها أبعد ما تكون عن ذاته وأمور معيشته الصعبة، وبإضافة شعوره بالعجز عن تغيير هذا التعسف، فإنه يغترب فى وطنه، يغترب فى نفسه، ويصير فاقدا للشعور بالأمان، قلقا وعاجزا عن تحديد معنى لحياته بصورة إيجابية، ومن ثم يصير عرضة للانخطاف بأية إغراءات سلبية تلوح له فى ثنايا تقلبات وعواصف هذه الحياة الخانقة، فتكون الإدمانات المختلفة، والجنوح للتطرف والتعصب، والممارسات التدميرية للذات وللغير، وفى ذُرى هذه الممارسات التدميرية تأتى اللحظات التى تتيح له الثأر من صانعى اغترابه، من رموزهم ومصالحهم ومفردات وجودهم أو أشباح هذا الوجود. ومثالها التاريخى واضح فى الفقرة التى أوردتها عن حريق القاهرة من الرواية المذكورة.

 

 كالعادة، سيحتفل المنتصرون بفوزهم المخاتل ويمعنون فى الاحتفال حتى يُقنعوا أنفسهم بجدارة ونزاهة الفوز، ولن يبصروا وهم فى حُمَّى الكرنفال، المدى الذى ذهبوا إليه فى صناعة ملايين المصريين المغتربين فى وطنهم، ملايين النفوس المنطوية على عدم الرضا عنهم والسخط عليهم، والذين لا يستطيع عاقل لديه أدنى قدر من البصيرة، أن يقطع باستحالة انفجار هذه النفوس إذا ما اشتعل حريق تلقائى أو مُدبَّر، وواقعنا للأسف المرير يحفل بشتى مبررات اشتعال هذه الحرائق وبكل أصناف المدبرين! صحيح أننى مثل غالبية الناس لم أكن أتصور أن يحدث إلا ما حدث، إلا أن تجسُّد ما كان هاجسا وتحوله إلى واقعٍ مُر التكرار ومنفِّر، يصيب القلب بحزن مرير، تتضاعف مرارته لدى مؤمن مثلى بالنبذ المطلق للعنف مهما تداعت مبرراته، ولا أجد فى قلبى المحزون على وطنى، لا على الخاسرين بكل أطيافهم.. لا أجد إلا الدعاء، بأن يحمى الله بلادى، من شرور أى حريق، حتى لو فاحت منه رائحة الكريم كراميل الذى تشابهه، خِداعا، رائحة السكر المحروق!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .