(العاعات) - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 2:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(العاعات)

نشر فى : الخميس 7 أكتوبر 2010 - 9:31 ص | آخر تحديث : الخميس 7 أكتوبر 2010 - 9:31 ص

 «حبيبى مثقف حقا لاذرب اللسان»، بيت من مسرحية ليلى والمجنون للشاعر صلاح عبدالصبور لم أنسه أبدا بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على قراءتى لهذه المسرحية، وذرابة اللسان تعنى طلاقة الحديث. وبالرغم من أن طلاقة الحديث لا تنفى عن بعض فرسان الكلام صفة الثقافة، إلا أن هذه الطلاقة كثيرا ما تخفى وراءها هواء، بل هواء فاسدا أحيانا، وجعجعة بلا طحن فى أغلب الأحيان.

هذا البيت من الشعر ظل معى لأننى معجب دائما بطائفة من أفذاذ البشر يبدون غير بارعين فى الحديث، جُملهم خاطفة، وثمة لوازم فى كلامهم يخبئون فيها خجلهم تحت الأضواء، بالرغم من كونهم شجعانا حقيقيين ومقاتلين لا مثيل لهم فى ساحات الحياة وأداء الواجب والتزود بالثقافة العميقة. لهذا وبالرغم من عدم طلاقة ألسنتهم، إلا أن الانتباه لما يقولون إذا تحدثوا، يكشف عن كنوز معرفية وإنسانية تبرق فى كل جملة، بل كل كلمة، بل حتى فى كل إيماءة بلا كلام، لأنهم صادقون، ومتسقون مع أنفسهم، وحقيقيون إلى أبعد حد. ويحضرنى من هذا النوع البشرى النادر اسمان، اكتفى بهما هنا لعلاقتهما بما أود التحدث عنه، وهما: العالم الوطنى الكبير الدكتور محمد غنيم، والعالمة الدكتورة رشيقة الريدى.

سأرجئ الكلام عن الدكتور غنيم إلا فيما يتعلق بفضله فيما أتحدث عنه، لأننى عاهدت نفسى أن أكتب عنه كتابا أحس أننى سأكون مقصرا فى واجبى الأخلاقى والمعرفى والثقافى والوطنى إن لم أكتبه للناس، من أجيال المستقبل خاصة، مُعرِّفا بهذا النموذج من العمارة الإنسانية الشامخة، لمصرى حقيقى استطاع أن يكون بالاستغناء غنيا، وبطلا فى كل ما أداه ويؤديه دون أن يفكر فى البطولة.

أما الدكتورة رشيقة الريدى التى لم أتشرف بالتعرف عليها شخصيا، وأتمنى أن يحدث ذلك قريبا، فإن جملة، بل نصف جملة لها، هى التى أوحت لى بفكرة هذا المقال.

لقد تابعت لقاءين على قناة «دريم» للدكتورة رشيقة الريدى، مع المتألقة بجدارة منى الشاذلى، والمشرقة بيقظة دينا عبدالرحمن، وفى اللقاءين برقت أمامى جملة كررتها الدكتورة رشيقة، وهى تصف دودة البلهارسيا المتطفلة داخل عروق فلاحينا المصريين، قالت «أصلها قاعدة ومستريحة»، ثلاث كلمات تبدو عادية وعابرة، لكنها كانت بمثابة غصن من البرق أضاء ليس فى ذهنى فقط، بل فى صدرى أيضا، لأننى أدركت أن العشرين سنة من كد هذه العالمة الصادقة فى حربها البحثية ضد هذا الطفيل البشع، إنما تبلورها هذه الكلمات الثلاث، التى نطقتها بطريقة تعكس الرفض والاحتجاج والتوعُّد لهذه الدودة، وأدركت أن تكتيك الدكتورة الريدى الفريد فى محاربة هذا الوباء المستوطن، هو أن تُقلق راحته، تخرجه من غطرسة تمدده فى العروق، فيتعقبه الجهاز المناعى، ويقصفه بطلقات الببتيدات التى تشتغل عليها الدكتورة.

فكرة مُلهِمة، لا تكُرِّر وسائل تسميم الدودة لقتلها وقتل كثير من الخلايا الحية معها داخل جسم المريض، كما فى سائر الأدوية، التى تسوِّقها شركات الدواء العالمية، لهذا لا ترحب هذه الشركات وعملاؤها المحليون بأبحاث الدكتورة الريدى الهادفة لتخليق لقاح يجعل ركون الدودة إلى الاطمئنان فى دماء ضحاياها أمرا مستحيلا، بل تقطع عليها طريق تسللها داخل الجسد الإنسانى من الأساس، وهى إشراقة علمية لا يصل إليها إلا النابهون المخلصون من العلماء.

هذه البلهارسيا، يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف عام فى مصر، كما يردد علماء المصريات فى المشروع العلمى، الذى تقوده جامعة مانشيستر الإنجليزية بالتعاون مع الهيئة الصحية لمشروعات التطعيم فى القاهرة. وهذا المشروع للتعاون الدولى، كما هو معلن يهدف إلى التأريخ للمرض وتتُّبع مسيرته منذ ظهوره للحد من انتشاره، فهو يصيب 300 مليون شخص حول العالم، ويعانى منه أكثر من 20% من المصريين معظمهم فى عمر الطفولة واليفاع نتيجة استعمالهم الاضطرارى للمياه الملوثة بسركاريا البلهارسيا خاصة فى الريف، الذى تضاعف تلوث مياهه فى هذا العهد السعيد.

لقد عثر علماء المصريات فى مشروع مانشيستر على بقايا بويضات متكلسة للبلهارسيا على جدار أمعاء ومثانة مومياوتين فرعونيتين إحداهما تعود إلى عصر الأسرة 20 فى القرن التاسع قبل الميلاد، أى منذ ثلاثة آلاف سنة. وليست هذه أول مرة يتم فيها العثور على بويضات البلهارسيا فى مومياوات أجدادنا، فقد عُثر من قبل على بويضة بلهارسيا متكلسة فى مومياء المدعو «ناخت» من الأسرة الحادية والعشرين، وكان كبده متليفا بتأثير مضاعفات هذا المرض اللعين. وهى صورة جعلتنى أتساءل: ما دام ذلك كذلك، فلابد أن المصريين القدماء كانوا يعرفون هذا المرض ويعطونه اسما ويحاولون علاجه، فحاولتُ الوصول إلى معلومات فى هذا الشأن..

وجدت معلومات لم تُتح لى فرصة التيقُّن من دقتها، لكنها بدت لى مقنعة وطريفة، وذات مغزى، وتقول إن المصريين عرفوا مرض البلهارسيا وأطلقوا عليه اسم «عاع»، ولأن رواد علم المصريات لم يكن بينهم مصريون وعرب وليس فى لغاتهم اللاتينية حرف العين لهذا قلبوا ال«العاع» إلى «آء»، التى تبدو قريبة جدا من «آه»، وتجعلنى أشعر بافتقاد ووحشة للحبيب العبقرى الراحل الدكتور يوسف إدريس، الذى عالج ببراعة تراجيديا البلهارسيا الملتهمة لأجساد ومواهب أبناء الفلاحين المصريين فى قصته الفذة «لغة الآى آى».

«عاع»، أو «آء»، أو «آه»، كأنها صرخة عمقها خمسة آلاف عام نابعة من روح المصريين المعذَّبة، وهو عذاب تسببه طفيليات غاية فى البلادة والجحود لو تأملنا مسلكها فى غزو واحتلال الجسد الإنسانى، فبعد اختراق السركاريا، التى هى طور يَرَقى ناقص من ديدان البلهارسيا، لجلد المصابين، تسبح حتى تصل إلى الأوعية الدموية، التى تحمل الدم إلى الكبد وتسمى الدورة البوابية، تتغذى الديدان من الدم وتنمو وتنضج ذكورها فى غضون 5 8 أسابيع عندئذ يحمل كل ذكر أنثاه فى قناة بجسمه تسمى قناة الاحتضان حتى تنضج الأنثى، ويتزاوجان أثناء انسيابهما فى مجرى الدم حتى يصلا إلى الأوعية الدموية الدقيقة المنتشرة فى جدار المثانة فى حالة البلهارسيا البولية، وفى جدار المستقيم فى حالة بلهارسيا المستقيم، وهناك يستقر عرسان الغفلة المتطفلون، ويستريحون، مغتصبين قصورا من دماء ضحاياهم، وناهبين غذاء لا يستحقونه من هذه الدماء، وليتهم يكونون نافعين شاكرين، أو على الأقل غير مدمِّرين.

إنهم يرتعون فى الدم، حيث لا عمل لديهم إلا مص الدم والتكاثر بتوحش، تبدأ الإناث فى بذر بويضاتها وهى مستقرة فى قنوات احتضان الذكور الحنون العطوفة! فتمد الإناث أطرافها المحتوية على الفتحات التناسلية حتى تصل إلى وعاء دموى دقيق رقيق فتخترقه وتضع فيه بيضاتها حتى يمتلئ وتنتقل إلى غيره، وتكون كل بيضة مزودة بشوكة كالخنجر المسموم، طرفية فى البلهارسيا البولية، وجانبية فى بلهارسيا المستقيم، وبالعنف والغصب تشق البيضات طريقها، تخرق وتقطع وتُدمى وتنساب خلال قشرتها إنزيمات مدمرة تذيب أنسجة ما تخترقه من جسم العائل الحى المنهوب، حتى تغادر هذه البيضات الدموية أجساد البشر الدامية، إلى الماء العذب، لتضاعِف وتُفاقِم أذاها.

فى مياه النهر والقنوات تتشرب بيضات البلهارسيا الماء فتنفجر قشرتها لتخرج منها يرقات مغزلية تسمى الميراسيديوم، ويسبح الميراسيديوم بمساعدة الأهداب المنتشرة على جسمه حتى يعثر على قواقع يحتلها ويشق أنسجتها الداخلية ليتحول فيها إلى كيس جرثومى، وداخل هذا الكيس يتوالى انقسام الخلايا الجرثومية للبلهارسيا حتى يتكوَّن داخل كل كيس العديد من يرقات تسمى سركاريا، فكأن كل بيضة من بيضات البلهارسيا ينتج عنها جحافل من يرقات السركاريا، تثقب جدار الكيس الجرثومى وتغادر القوقع فى حشود تسبح لتصطاد الناس، تتسلل عبر جلودهم اختراقا، وتوغل فى الدم قهرا

وتكرر السيرة الكريهة لطفيليات البلادة والعدوانية والإكراه، مخلفة فى أجساد ضحاياها جروحا وقروحا وتليفات تعطب الجهاز البولى، وتخنق الكبد، ومن حقول دمارها ينبثق السرطان، سرطان المثانة على وجه الخصوص، عذاب الفلاحين الذى صرخ بآهاته يوسف إدريس، ونهض فى محاربته الدكتور غنيم عبر مركز الكلى عالمى المستوى بالمنصورة، والذى كان قاطرة شدت محاربين علميين مرموقين ضد البلهارسيا وعواقبها فى هذه الجامعة الإقليمية الخصبة، فكان مركز الجهاز الهضمى والكبد، حصنا آخر ضد جرائم هذه البلهارسيا.

إنها طفيليات بليدة، تأخذ دون استحقاق، ولا تعطى إلا الأذى، فهل يصح أن تُتُرك مستقرة ومستريحة فى العروق؟ إنه السؤال نفسه الذى صاغته الدكتورة رشيقة الريدى فى ثلاث كلمات نطقتها بلا إضافة إلا تعابير الامتعاض والاستنكار والرفض لهذا ال«عاع».

وما أكثر العاعات فى حياتنا!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .