من الهم إلى الحلم - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 10:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من الهم إلى الحلم

نشر فى : الخميس 7 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 7 مارس 2013 - 9:19 ص

 

أعتذر هذا الأسبوع عن معالجة الهم السياسى الذى أوحل البلاد والعباد فيه فريق متيبس ومهيمن من جماعة الإخوان أثبت، ويكرر إثبات أنه لا كفاءة ولاعمق له غير اللؤم والمراوغة والتكويش بغية الاستئثار بالسلطة ولو على أنقاض هذا الوطن، وهذا هو المفجر الحقيقى لكل مظاهر العنف البادية الآن. واعتذارى يتضاعف لأن النار تمسك بأطراف مدينتى، المنصورة، دون أن اتمكن من متابعة دقيقة لمجريات الأمور تتيح لى الكتابة المطمئنة كونى على سفر، أحضر ندوة ثقافية فى الكويت تقيمها سنويا مجلة العربى التى كانت بيتى الأول فى الصحافة الثقافية والعلمية وأدب الرحلات. وقد كنت قررت قبل سفرى أن أنشر المقال الذى ستقرأونه هنا، وهو من أطياف حلم راودنى فى أعقاب ثورة يناير المغدورة، بأن أولى جل اهتمامى فى الكتابة الصحفية لفتح نافذة ثقافية على مستجدات العلم والتقنية فى العالم، خاصة فى مجالى الطاقات البديلة والحفاظ على البيئة الفطرية، وها هو حلم يكاد يلامس الأسطورة، يحوله العالم غيرنا إلى عِلم، وتتلقفه إسرائيل لتُشيِّد منه مشروعا طموحا لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر، وقد عيَّنت له مشرفا من علمائها ذوى الوزن العالمى كان مستشارا علميا للحكومة الإسرائيلية وهو «دان زاسلوفسكى» إضافة لمجموعة باحثين مهمين فى معهد «تخنيون» الذى حرصت إسرائيل على جعله من أهم مراكز البحث العلمى فى العالم! مما يجعلنا نهز رءوسنا مبتسمين بمرارة إذا ما فتشنا عن مستشارين علميين بهذا الوزن أو بأى وزن فى حكم مرسى وعشيرته وإخوانه، بينما مصر غنية بعقولها وإن تكن مُهدَرة. لم أكتب عن المشروع الإسرائيلى ليس فقط لأننى أكره إسرائيل العنصرية العدوانية، ولكن لأننى لم أُحِط بعد بجوانبه وبعض تطويراته، لهذا كتبت عن المشروع الأصلى المُعتمِد على التقنية الألمانية وتفعيل الإرادة والخيال الأستراليين، وهو مشروع وإن بدا أسطوريا الآن، إلا أنه يبشر بواقع مدهش فى الغد. فلنغادر الهم معا، ولو إلى حين، لنطل على.. حلم:

 

كهرباء من الهواء

 

داوها بالتى كانت هى الداء. قاعدة لها بعض النفع فى المداواة بجرعات شديدة الضآلة من العناصر المسببة للداء فى مفهوم الطبابة المثلية homeopathy، وهى نافعة أيضا فى مداواة جراح الحب الضائع بحب بديل، وهاهى تبزغ فى أفق الطاقات البديلة، بفكرة تبدو كما حلم جنونى، لكنها كما كل أحلام العلم التى بدت جنونية فى عمرها الباكر، تتقدم الآن لتتجسد حقيقة مذهلة على الأرض، لتحصل البشرية المذعورة من خلو وفاضها المستقبلى من الطاقة على كهرباء من الهواء! وبمساعدة الشمس. طاقة تدوم مادام تحت خيمة كوكبنا الأزرق اللؤلؤى هواء، ومادامت تسطع على هذا الكوكب شمس، لكنها ليست طاقة الرياح التى بتنا نعرفها، ولا طاقة المحطات الحرارية الشمسية أو الكهروضوئية، بل هى دمجٌ مُعجِز البساطة لأفضال الهواء والشمس معا، وبأداة بالغة البساطة طالما التصقت فى وعينا بالنقمة، فهى المداخن، وها هى تتحول بعد تطهُّرها وتطاوُلِها إلى نعمة، لأنها صارت مداخن ليست كالمداخن!

 

مداخن جديدة عملاقة لا يقل ارتفاع الواحدة منها عن 800 متر، أى مايقارب ضعف ارتفاع ناطحة سحاب «الإمبيرستيت»، وقطرها أكثر من مائة متر، ولا ينبعث منها دخان، فهى لا تعتلى أفرانا ولا محارق من أى نوع، بل تتسنم نوعا من صوبات مترامية، قطر الواحدة منها يبلغ الخمسة كيلو مترات، مسقوفة بألواح بلاستيكية شفافة لتجميع حرارة الشمس، فحين تسطع الشمس مشرقة على الصحراوات الشاسعة الجافة كصحرائنا، تتركز الحرارة تحت سقف الصوبة الشفاف الذى يأسرها ولا يفلتها كما فى أى صوبة زجاجية، فيسخن الهواء فى جوف الصوبة، ويتوق كما كل هواء ساخن للصعود والابتراد، ولا يجد أمامه غير الفتحة السفلى الواسعة للمدخنة ترحب بتوقه المحموم، بل المقترب من درجة الغليان عندما تكون درجة حرارة الجو خارج الصوبة 45 درجة مئوية، ويتوسط عند 70 درجة مئوية عندما تهبط حرارة الجو عشر درجات كاملة، ويظل ساخنا عند درجة حرارة أقل بعد الغروب، وفى كل الحالات يظل يندفع ذلك الهواء الساخن بكل تدرجاته ليصعد فى رحاب المدخنة العملاقة، وبسرعة تقارب سرعة سيارة منطلقة بلا جنون، فيدير الهواء الدافق فى طريقه الصاعدة 32 توربينا تولِّد 200 ميجا وات من الكهرباء، أى خُمس ما يولِّده مفاعل نووى، وبتكلفة أقل من خُمس تكلفة المفاعل النووى، وما أن يُكتمل بناء تلك المدخنة العملاقة التى تقتنص الكهرباء بالهواء، لا تعود هناك أعباء تشغيل إضافية، فلا وقودا نوويا ولا أحفوريا، ولا تكاليف ترميم ولا دفن نفايات، ولا مخاطر إشعاعية، ولا تلوث بأى دخان كان. فأى حلم؟!

 

نعم حلم، لكنه ليس حلما بغير علم، ومن ثم يخطو ليتجسد الآن، حقيقة يرسمها فريق علمى وهندسى استرالى اقتبس هذا الابتكار من خزانة التقنيات الألمانية، وأقام عليه شركة دولية طموحة تحمل اسما بالغ الدلالة هو: «مهمة بيئية»

 

ENVIRO MESSION، وهى مهمة تضرب أكثر من عصفور بدفقة هواء وشمس واحدة، فإضافة لتوليد الكهرباء التى تكفى بها مدخنة عملاقة واحدة احتياجات مدينة يسكنها 200 ألف إنسان، هناك إمكانية لإعذاب مياه البحر، وسياحة تحمل مرتاديها فى مصاعد شفافة إلى القمة العالية. أما على الأرض، فهناك الصوبة، لزراعة محاصيل تتطلب السخونة الغامرة فى برد الشتاء، ولتجفيف محاصيل تنشُد السخونة فى بقية الفصول. أعجوبة لا يُقرِّبها من حدود التصديق غير كشف ما يكتنزه قلبها من علم، علم عبقرى وبالغ البساطة فى آن.

 

إنها بساطة المدخنة، والتى تنهض على قاعدة فى علم الفيزياء تُسمَّى «تأثير المدخنة»

 

 chimney effect، وهو تأثير يكاد يعرفه كل الناس، وإن كانوا لا يعرفون جيمس ماكسويل الذى فسر سره العلمى، عندما قدم عام 1860 ورقة بحثية عن أثر الحرارة فى سلوك الغازات التى تتسارع جزيئاتها كلما ارتفعت حرارتها، فتخف للصعود ملتمسة الابتراد، وتتلقف هذا الالتماس بنية المدخنة التى يندفع الهواء الساخن نحو فتحتها السفلى ليصعد فى قلبها ويواصل الصعود حتى يبلغ الفوهة العليا فيُطاح به فى السماء المفتوحة، ومن ثم يستمر ويتسارع سحب الهواء الساخن من جوف الصوبة إلى قاعدة المدخنة، ومن القاعدة إلى القمة طبقا لخبيئة علمية أخرى تكتنزها المداخن اسمها «قاعدة برنولَّى»، وهى كما أعظم النظريات العلمية، تحمل ملامح الطرافة والبساطة المعجزتين التى تنطوى عليها قوانين الطبيعة، والتى ما كان لها أن تُكتَشف، إلا بتأملات عالم مثل برنُّولى، شغلته أعاجيب المداخن، وأى مداخن!

 

لم تكن المداخن الأولى التى اكتشف بعضَ سرها «برنوِّلى» مداخن مصانع ولا قطارات، بل كانت مداخن فى الجسد الإنسانى، لا يتصاعد عبرها دخان ولابخار ملتهب، بل أنفاسٌ حارة، ودماءٌ دافقة، فبرنولى حامل إجازة الطب إضافة لأستاذيته فى الفيزياء والرياضيات وحتى علم النبات، قدم فى باكورة مسيرته العلمية أطروحتين، أولاهما عن تصاعد الهواء عبر القصبة الهوائية برغم سلبية حركة عضلات الصدر والحجاب الحاجز عند الزفير، والثانية عن صعود الدم إلى المخ فى الشرايين ضد الجاذبية الأرضية، وفى الوقت نفسه كان مهتما بحركة السوائل عند انتقالها من حيز واسع إلى آخر أضيق. وانكشف له السر عام 1726 فى قانون لم يحمل اسمه إلا بعد موته بعقود، ومفاده: «يكون ضغط تيار الماء أو الهواء كبيرا إذا كانت سرعته ضئيلة، ويقل الضغط إذا زادت السرعة»، وبتطبيق ذلك على ما يحدث عند الفوهة العليا من المدخنة، نرى بداهة أن سرعة الهواء الحر خارج الفوهة تكون أكبر مما فى داخلها، ومن ثم يكون الضغط خارجها أقل، فيزداد ويتسارع سحب الهواء من داخل المدخنة مرتفع الضغط إلى خارجها منخفض الضغط، ويزداد بالتالى تسارع سحب الهواء من داخل الصوبة إلى فتحة المدخنة السفلى، ومن ثم يدير ذلك الزخم من الهواء توربينات توليد الكهرباء المثبتة داخل تلك الفتحة.

 

إنها قوانين الله فى خَلقِه، رأتها عيون التأمل العلمى فى تكوين بدائى تكاد لا تتوقف أمامه عامة الأبصار، المداخن، التى استلهم سر صعود الهواء فيها جيمس ماكسويل، ثم سر تسريع خروج الهواء من فوهتها دانييل برنولى، وأتى من صنع من نتائج هذه التأملات حلما لطاقة جديدة آمنة نظيفة عبر مداخن بلا دخان، تخلع عنها تسمية المداخن فتكون أبراجا للطاقة Energy Towers، بل أبراج للطاقة الشمسية التى هى مصدر كل طاقات كوكبنا، فتُسمى «أبراج الشمس» Solar Towers، فهل هى أبراج واقعية لإنقاذ المستقبل، أم مجرد حلم من أحلام الإنقاذ؟

 

لتكن حلما، ولماذا لانحلم مع الدنيا التى تتحدى الدنيا لتحيل أحلامها إلى حقائق على الأرض تبهرنا وتوسِّع الهوة بيننا وبين العصر وضروراته، خاصة وأرضنا ساحة رحيبة وعطشى للإعمار بتألقات هذا الحلم، حلم أبراج الشمس والهواء، كل خمس مداخن تعطى ما يعطيه مفاعل نووى بلا أذى ولا خوف ولا ارتهان لغير الله صاحب الشمس والهواء، وكل خمس مداخن فى ركن من أركان صحراواتنا العربية الحارة الجافة الشاسعة تعطى ما يعطيه مفاعل نووى، ألف ميجاوات من الكهرباء، تُحلِّى المياه المالحة وتضىء ليالينا وتحرك مصانعنا ومركباتنا التى ستكون بالضرورة كهربائية، فى البر والبحر وربما فى السماء أيضا. تصير صحراواتنا نعمة لا مثيل لها، بعد أن تصورناها نقمة. ونتداوى بعطاياها حين يداهم الدنيا سقم نضوب الطاقات الملوثة للبيئة، وسقم التلوث نفسه. فلنحلم، على الأقل الآن نحلم، فبعد الحلم عِلم.

 

 

 

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .