في ذكرى حرب أكتوبر: الثغرة بين الواقعة التاريخية والمنهج المستمر - ضياء رشوان - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 11:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في ذكرى حرب أكتوبر: الثغرة بين الواقعة التاريخية والمنهج المستمر

نشر فى : الثلاثاء 6 أكتوبر 2009 - 10:02 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 6 أكتوبر 2009 - 10:02 ص

 تحل اليوم الذكرى السادسة والثلاثون لحرب أكتوبر المجيدة التى دفع المصريون أثمانا فادحة من أرواحهم، ودمائهم وأموالهم لكى يستردوا فيها وبها كرامتهم وعزة جيشهم بعد أن أطاح بهما العدوان الإسرائيلى فى الخامس من يونيو عام 1967. ولم تكن حرب أكتوبر بالنسبة للمصريين مجرد «انتقام» لما جرى فى نكسة يونيو، ولا سبيلا وحيدا لاستعادة الأرض المحتلة، بل كانت أيضا بوابة لمستقبل كانوا يتطلعون إلى بنائه مليئا بالأمل والرخاء والتقدم تهيمن عليه قيم العدل والمساواة التى طالما بشرهم بها نظامهم السياسى القائم حينذاك.

إلا أن نفس النظام السياسى سرعان ما انطلق مهرولا فى طريق معاكس تماما لكل ما وعد به شعبه وما أسفرت عنه مجريات الحرب المجيدة من كسر ـ وللأبد ـ لعقدة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر ومن تأكيد جديد على قدرة العسكرية المصرية على مواجهة أشد التحديات والأعداء ومن توحيد وتعبئة لطاقات المصريين البناءة والإيجابية. فقد أوقفت قرارات القيادة العليا للنظام السياسى الاندفاع المحسوب للقوات المصرية نحو سيناء المحتلة لتحرير أوسع مساحة منها لتكون سندا وقاعدة لأى تفاوض قادم مع العدو، بما أدى إلى اختراق قواته صفوفنا الخلفية فى الضفة الغربية لقناة السويس مشكلا «الثغرة» التى قامت عليها بعد ذلك وطوال السنوات التالية حتى اليوم جميع التطورات العسكرية والسياسية بيننا وبين العدو وبداخل بلادنا أيضا.

هذه الثغرة التى دفعت قواتنا المسلحة الباسلة ومقاومتنا الوطنية الصامدة أثمانا غالية لكى تطهر أرضنا منها كانت هى المدخل الحقيقى لذلك النظام السياسى لكى يعلن انتهاء الحرب بمفاوضات الكيلو 101 بكل ما ترتب عليها من نتائج أفاض من حضروها وكانوا قريبين منها من كبار قادتنا العسكريين فى ذكر آثارها شديدة السلبية على مشروعنا العسكرى الطموح لتحرير الأرض المحتلة.

ولم تكن نتائج الثغرة فقط شديدة السلبية على مشروعنا العسكرى الوطنى، بل كانت أكثر على مشروعنا السياسى الداخلى كله، فقد مثلت فى حقيقتها نهجا جديدا للنظام السياسى فى التعامل مع القضايا الوطنية الكبرى وفتحت بابا لم يغلق حتى اليوم لتغيرات كبرى راحت تجتاح مصر لتطيح ليس فقط بكل ما كانوا يتوقعونه من مستقبل بل وما كان قائما بالفعل فى المجتمع والدولة من بشائر أمل حقيقى فيه، ولتقيم فى البلاد نظاما سياسيا ـ اجتماعيا ـ اقتصاديا جديدا اندفع الرئيس السادات بسرعة هائلة لوضع قواعده فور أن سكتت المدافع ووضعت الحرب أوزارها.

وبالرغم من أن الرئيس الراحل لم يكن «ماركسى» التوجه فإنه أولى القواعد التى وضعها لنظامه الجديد كانت على الصعيد الاقتصادى، حيث تبنى سياسة «الانفتاح الاقتصادى» التى كانت البوابة التى اندفعت منها بعد ذلك جميع التغيرات الاجتماعية والقيمية والسياسية التى استقرت فى مصر منذ ذلك الوقت.

وعلى الصعيد الخارجى، واصل الرئيس السادات نهجه الجديد المستمد من الثغرة، فانقلب بعلاقات مصر الخارجية مائة وثمانين درجة لكى ينحاز بصورة لا مواربة فيها للحلف الغربى بقيادة الولايات المتحدة، التى باتت الحليف الاستراتيجى الأول لمصر بكل ما عناه ذلك من تغير فى علاقاتها بالعدو «القديم» إسرائيل. ومع الدولة العبرية كان نهج الثغرة الذى اتبعه الرئيس السادات أوضح، فبعد أربع سنوات فقط من حرب أكتوبر المجيدة كان يزور القدس ويخطب فى الكنيست الإسرائيلى مؤكدا قبل أن يفاوض أو يوقع أى معاهدة مع العدو «القديم» أنها ستكون آخر الحروب مسقطا بذلك الوسيلة الرئيسية للضغط فى أى مفاوضات سلام جادة. وأتت بعد أقل من عامين المعاهدة المنتظرة لتكون مثالا كاملا لنهج الثغرة الذى اعتمده الرئيس الراحل لإدارة شئون البلاد الخارجية والداخلية، ولتحرر سيناء بالفعل من أى وجود عسكرى إسرائيلى ولكن أيضا لتخلى مساحات هائلة منها من أى وجود عسكرى مصرى قادر على ردع أى مغامرات أو مطامع إسرائيلية مفاجئة ولتضع فيها قوات دولية ليس لها أى قدرة أو صلاحية على حماية السيادة المصرية هناك من مثل هذه المغامرات والمطامع.

وبعد أن مضى ثمانية وعشرون عاما على رحيل الرئيس السادات مغتالا فى نفس هذا اليوم من عام 1981، يبدو واضحا من كل مشاهد الوضع المصرى الداخلية والخارجية أننا لانزال نعيش فى كل تفاصيله هيمنة منهج الثغرة على أداء النظام السياسى بكل قواعده التى وضعها الرئيس السادات. ولم يكن النظام الجديد ـ الامتداد أقل «إبداعا» من سلفه فى تطبيق هذا المنهج، فقد أضاف إليه، بل وعمق منه وزاد من مساحات تطبيقه فى المجتمع والدولة وعلى الصعيدين الداخلى والخارجى على حد سواء. وعلى هذا الصعيد الأخير، بدا واضحا ومتكررا فى كل الأزمات الكبرى التى عرفتها المنطقة منذ الاجتياح الإسرائيلى للبنان عام 1982 وحتى العدوان الغاشم على غزة فى مفتتح العام الحالى (2009) أن نهج الثغرة ونظرية «أن حرب أكتوبر هى آخر الحروب» هما المهيمنان على الأداء السياسى للنظام تجاه العدو «القديم» وتهديداته العملية الخطيرة لأمن مصر القومى ومكانتها فى محيطها العربى.

فقد اتسم هذا الأداء فى كل هذه الأزمات بالتردد والتخوف المبالغ فيه من أن ترفع مصر الرسمية صوتها عاليا ولو بالاحتجاج على الاعتداءات الإسرائيلية وتهديداتها على المصالح المصرية الحيوية، ومال النظام السياسى دوما إلى تصوير أى مطالبة بالاحتجاج أو اتخاذ أى موقف دبلوماسى حازم وكأنها دعوة لتوريط مصر فى حرب جديدة مع العدو «القديم»، وبدت مصر فى الأزمات كلها وكأنها مجرد بلد جار يفضل نظامه السياسى له دوما أن يتخذ موقف «المحايد» أو «الوسيط» بين طرفين متصارعين لا تربط بلاده بأحدهما علاقات تاريخية وعضوية جامعة للدول العربية ومعاهدة للدفاع المشترك وبالآخر حروب أربع احتل فيها أجزاء غالية من أرضها.

أما فى داخل البلاد فلم يختلف الأمر كثيرا، فقد تدافعت نتائج وآثار التطبيق المفرط لمنهج الثغرة لكى توصل مصر إلى حالها الذى نعرف اليوم بكل ما يعنيه من معاناة لعموم المصريين باتت تقليدية ومملة من فرط تواترها وتكرار الحديث عنها.

فالانفراد بالسلطة طوال عمر النظام السياسى دون مشاركة من أى قوة سياسية أو شعبية بات هو السمة الأبرز لنظام راح يضيق كلما تقدم به العمر بأى معارضة، وراح يفصل الدستور والقوانين لكى تصبح حالة الانفراد هذه ذات شرعية دستورية وقانونية لا يستطيع أحد أن يخترقها أو ينتقد ممارسات النظام الانفرادية فى ظل وجودها كحامية لها. وفى سبيل تمكين الانفراد بالسلطة لم تعرف البلاد خلال ستة انتخابات لمجلس الشعب وضعفها لمجلس الشورى وأقل منها للمجالس الشعبية المحلية وانتخابات رئاسية واحدة سوى انتخابات واحدة التى اتسمت فى مراحلها الأولى بقدر من الشفافية، وهى انتخابات مجلس الشعب لعام 2005، حيث كان الإشراف القضائى هو الضامن الوحيد لها، وهو ما تبخر الأمل فى تكراره بعد أن أطاحت التعديلات الدستورية لعام 2007 به وتركت الباب مفتوحا على مصراعيه للجان الحكومية المشرفة على الانتخابات العامة لكى تواصل مسيرة التدخل والتزوير المتواصلة طوال عمر النظام السياسى.

وعلى صعيد الأوضاع الاقتصادية والسياسية معا، بدا واضحا العدد الهائل للثغرات التى اخترقت المجالين والمدى الخطر الذى وصل إليه التداخل بين الثروة والسلطة فى البلاد. فلم تعد فقط حفنة صغيرة من رجال الأعمال الجدد هى التى تدير الحزب الحاكم المنفرد بالهيمنة على كل شئون البلاد، بل إن فساد هذه الحفنة الاقتصادى والسياسى وامتداداتها الطبيعية فى عالم رجال الأعمال واستيلائهم على المال العام بجميع صوره بات أبرز السمات التى يتسم بها النظام المصرى وتظهر جلية فى تقارير الهيئات الدولية المختصة بمتابعة الفساد حول العالم. وكان منطقيا فى ظل هذا الوضع على صعيد النخبة السياسية والاقتصادية أن تنهار على الجانب الآخر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لعموم المصريين لتصل نسبة الفقراء منهم إلى أكثر من 40% بينما ينتظر الباقون دورهم للهبوط السريع إلى نفس الهوة مع سابقيهم.

ولم يكن مستغربا ولا غريبا فى ظل كل هذه الأوضاع المتردية بعد نحو ستة وثلاثين عاما من بدء تطبيق منهج الثغرة الذى ابتدعه الرئيس السادات وظل النظام السياسى الحالى سائرا عليه، أن نصل إلى الثغرة الأكبر فى تاريخ نظامنا الجمهورى الذى أقامته ثورة يوليو بطرح مشروع التوريث الذى إذا تمت إقامته فلن يكون مجرد ثغرة فى تاريخ جمهوريتنا بل سيكون عندها الهاوية التى سيسقط فيها إلى الأبد ومعه كل الإنجازات والقيم والمصالح التى حصل عليها الشعب المصرى خلال سنواته الطويلة بالرغم من كل أشكال المعاناة التى مر بها.

ضياء رشوان  كاتب مصري وباحث في شئون الجماعات الإسلامية
التعليقات