ثلاثة كبار.. فى المسرح القومى - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 5:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثلاثة كبار.. فى المسرح القومى

نشر فى : الثلاثاء 30 ديسمبر 2014 - 9:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 30 ديسمبر 2014 - 9:05 ص

أعادنى افتتاح المسرح القومى لنصف قرن مضى.. ما أسرع مرور الأيام.. يبقى منها ذكريات، قد تكون مرة، غالبا، ينساها المرء فى لعبة عبقرية للذاكرة المراوغة، وقد تكون حلوة، يستمد منها الإنسان طاقة أمل.. كنا، فى تلك السنوات، طلبة، فى معهد الفنون المسرحية، مسموح لنا حضور عروض المسارح، بالمجان طبعا، وأمست، إحدى متعنا، إلى جانب مشاهدة المسرحيات، الاقتراب من كبار الكتاب، الاستماع لهم، متابعة سلوكهم وتصرفاتهم.. منهم، سعد الدين وهبة، الفريد فرج، نعمان عاشور.. الثلاثة برغم الاختلافات الواسعة بينهم، اشتركوا فى عادة واحدة: الحضور اليومى إلى المسرح، وعدم مغادرته إلا بعد انتهاء العرض، فضلا عن مسحة القلق، المستترة أو الواضحة، على وجوههم.

فى موسم 1964 ــ 1965، عرضت خمس مسرحيات جديدة، وأعيد عرض ثلاث مسرحيات، بحصاد «163» حفلة.. «سكة السلامة» من العروض الجديدة، و«كوبرى الناموس» من العروض المعادة، وهما من تأليف سعد الدين وهبة، الذى دأب على كتابة مسرحية كل عام.. فى مدخل صالة العرض، ثمة صالون، وإلى اليسار، توجد «كافتيريا» صغيرة، سعد الدين وهبة، دائما، أثناء العرض، يجلس فى منتصف الكنبة الوحيدة فى الصالون، لا يكاد يتحرك وجهه يخلو تماما من أى انفعال، لا يمكن معرفة إذا كان منشرحا أو متكدرا، لا يبتسم ولا يقطب ما بين حاجبيه، لذا، كنا نتحاشاه، على العكس من نعمان عاشور، المنطلق على سجيته، ساخن الانفعالات، الودود، وهما يختلفان عن الفريد فرج، الأقرب للحكماء، قليل الكلام، لكن لا توجد جملة يقولها إلا وتفتح لنا أفقا للتفكير.

بعد مشاهدة مسرحيتى سعد الدين وهبة، عدة مرات، وبدافع المغامرة، وإجراء حوار معه، اقتربنا منه، صديقى مهدى الحسينى وأنا، استأذنا فى الجلوس، لم يرحب ولم يرفض، أو هكذا بدا لنا.. لكنا جلسنا، صديقى من ناحية، وأنا من الناحية الأخرى.. سألناه عن الفارق بين أسلوب كمال ياسين فى إخراجه لـ«كوبرى الناموس» وسعد أردش فى تجسيده لـ«سكة السلامة»، وأيهما أفضل.. بلا حماس، وبذهن شارد، بدأ يرد على أسئلتنا.. لكن فجأة، بين الحين والحين، ينتبه، يهتم بشىء ما، يتوقف عن الاسترسال.. لاحظنا أن موقفه هذا يتكرر عندما يرتفع صوت الجمهور، بالضحك أو التصفيق. فسر لنا الأمر: أتمنى أن أعرف «سر الجمهور».. مزاجه يتغير كل ليلة. مرة يبدو هادئا، رقيقا، ومرة يطالعنا صاخبا، كأن شيطانا قد مسه. الغريب أن ما يضحك له ويصفق، لا يتكرر فى العرض التالى. إنها ذات المسرحية، بنفس الفنانين، لكن الاستقبال يكاد يتناقض.. ما هو السر؟ ولماذا؟ هذا ما أتمنى أن أجد له تفسيرا.. ربما لم يستطع سعد الدين وهبة أن يفك شفرته، لكننا عرفنا سر متابعته الصامتة لعروض مسرحياته يوميا.

فى الموسم التالى 1965 ــ 1966، قدم المسرح القومى عشر مسرحيات، خمس جديدة، وخمس إعادة عرض، بحصاد «175» حفلة.. وهذا يعطينا فكرة عن عنفوان الحركة المسرحية آنذاك، ودور «المسرح القومى» المرموق، العريق، فى قيادة قاطرة النهوض، فإلى جانب أساطين التمثيل، أمثال شفيق نور الدين، حسن البارودى، توفيق الدقن، ثناء جميل، ملك الجمل، سهير البابلى، فؤاد شفيق، والقائمة تطول إلى نهاية الصفحة، مع عدم إغفال صاحبة الموهبة الكبيرة، سميحة أيوب.. المخرجون، ف ىتلك السنوات، تنوعت اتجاهاتهم على نحو جعل المسرح المصرى أكثر ألقا: فتوح نشاطى، الكلاسيكى. عبدالرحيم الزرقانى، الواقعى. كرم مطاوع، بروح الحداثة المتأججة. سعد أردش، بدقته المتناهية، وانضباطه فى كل الأمور، حتى إنه كان يقول: فى الساعة التاسعة تفتح الستارة، وحينها، تدق ساعة بيج بن.

فى هذا الموسم، قدم المسرح القومى رائعة ألفريد فرج «سليمان الحلبى»، بإخراج الراسخ، عبدالرحيم الزرقانى، وأعاد عرض «حلاق بغداد» لذات المؤلف، من إخراج المجتهد فاروق الدمرداش.

اللافت للنظر، أن بعض أقارب ألفريد فرج، لا يظهرون إلا أثناء عروضه، لا يمكن أن تلمحهم فى مسارح أخرى، يرتدون بزات جديدة، بقمصان ناصعة البياض، يبتسمون فى حبور كأنهم أقارب العريس. كنا، كأشرار، نزعم أنهم أقاربه، جاءوا من البلد، علما أن ألفريد الذى ولد فى إحدى قرى الشرقية، عاش حياته فى مدينة الاسكندرية، قبل قدومه للقاهرة.. ألفريد، يقف على بعد خطوات منهم، بحاول، بذكائه، خلال نظارته الطبية، قراءة وجوه المشاهدين، بين فصل وآخر. يكاد يشجع من يريد الحديث معه كى يفع.. بتواضع، ورغبة حقيقية فى المعرفة، يسأل عن انطباعات المشاهد، وعن الفكرة التى وصلته، يجيد الإصغاء من دون استعلاء، وأحيانا، يعلق بإيجاز، تعليقا نافذا، يجعلك ترى مسرحياته على نحو أعمق.. قال: قضيتى هى العدالة، نحن شعب طاعن فى السن، مظلوم، وما أبطالى إلا باحثون عن العدالة.. أخناتون، وأبوالفضول، وسليمان الحلبى.

أما نعمان عاشور، الذى قدم له المسرح القومى، فى ذات الموسم، مسرحيته الجديدة «ثلاث ليالى»، من إخراج كمال ياسين، وأعاد عرض «عيلة الدوغرى» التى أخرجها عبد الرحيم الزرقانى.

نعمان، يختلف كثيرا عن ألفريد وسعد، بشوش الوجه دائما، منفعل عادة، بسيط بساطة محببة، قريب من النفس، يقف خارج مبنى المسرح، عند المدخل الخارجى، ينظر فى ساعته كل دقيقتين، يصب جام غضبه على أصدقائه الذين تأخروا عن الحضور، أحمد عباس صالح، محمد عودة، أمير إسكندر.. وإذا قيل له إنهم شاهدوا العرض من قبل، يعلق: هم يريدون مشاهدته مرة أخرى، كل منهم قال لى إنه سيحضر.

ما أن يهل أحد منهم حتى تنفرج أساريره، يتلاشى غضبه كأن لم يكن، وعلى العكس من ألفريد وسعد، يتسم بالكرم الشديد، فلا يمكن أن تتم ليلة عرض إلا ويأخذ البعض، من طلبته فى المعهد، إلى الحسين، لشرب الشاى، وأحيانا لأكل «النيفة».. ومن حسن الحظ، كنا من طلبته.. من عينيه، نرى لمسات الإبداع التى عمقت من رؤيته.. حدثنا عن نهاية «عيلة الدوغرى»، حين يقف الطواف، شفيق نور الدين، وحيدا، فى البيت الذى غادره الجميع، مشيرا بذراعه، متسامحا، قائلا: روحوا.. مع السلامة.. ربنا يسامحكم كلكم.

ينبهنا نعمان إلى أن حركة ذراع الطواف، طبقا لمؤازرة الزرقانى، موجهة لجمهور المشاهدين أيضا، ومعظمهم من تلك الطبقة التى تنتمى له عيلة الدوغرى.. كل فرد، يبحث عن مصلحته، وكلهم.. نسوا الطواف الذى خدمهم طوال العمر.

هذه الذكريات ليست «نوستالجيا»، أو حنينا للأيام الخوالى، أمسيات دافئة برغم الشتاء ــ موسم عروض المسرح القومى.. ولكنها صورة، نتمنى أن تعود، لذلك المحراب الذى أعيد افتتاحه.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات