البرنامج الغائب - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 6:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البرنامج الغائب

نشر فى : السبت 30 يوليه 2011 - 8:07 ص | آخر تحديث : السبت 30 يوليه 2011 - 8:07 ص

 «هنومة»، نجمتنا القديرة، هند رستم، حسب اسمها فى رائعة يوسف شاهين «باب الحديد»، تبيع زجاجات الكازوزة فى قطارات محطة مصر. فاتنة، نشيطة، ذكية، خفيفة الظل، تريد أن تأكل عيشها بعمل حلال، لكن الشرطة تطاردها، تجرى وراءها، من رصيف لرصيف، وبين القضبان، وهى، تدافع عن رأسمالها المتمثل فى دلو وحيد، بكل قواها. وحين تخفى ضابط الشرطة، أنور وجدى، فى «ريا وسكينة» لصلاح أبوسيف، كى يعرف سر العصابة الموغلة فى الشر والجريمة، ارتدى الجلباب والجاكتة، وأخذ يبيع السجائر التى وضعها على طاولة يحملها فوق كفه. فاتن حمامة، الرقيقة، باعت أوراق اليانصيب فى «عائشة» لجمال مدكور.

فريد شوقى، البطل الشعبى، ملك الترسو، الهارب من فقر قريته، يصل للقاهرة، يبيع البطيخ جائلا فى الشوارع، لحساب الطاغية الصغير توفيق الدقن، فى «الفتوة» لصلاح أبوسيف. وأخيرا، يكاد محمد سعد فى «اللمبى» لوائل إحسان أن يوفق فى مهنته كبائع للكبدة، لكن البلدية، مدججة بالشرطة، تصادر عربته.

الباعة الجائلون، ولو على استحياء، وعلى نحو هامشى، اعترفت بهم السينما المصرية، الأمر الذى يحسب لها. لكن قنواتنا التليفزيونية تجاهلتهم، وصحافتنا استنكرتهم، فبينما لم نسمع لهم صوتا فى طوفان البرامج، لا نقرأ فى الجرائد إلا عن نجاح أجهزة الأمن فى طردهم من هذا المكان أو ذاك.. وتتوالى أخبار المواجهات، العنيفة غالبا، بينهم والثوار فى ميدان التحرير.. هكذا، كأن الباعة ــ وأستغفر الله ــ مجرد موبقات يجب التخلص منها، أو ميكروبات وجراثيم، يستحسن إبادتها. لكن، فى المقابل، بعزيمة من حديد، أثبت الباعة حضورهم الممتد، عبر التاريخ والجغرافيا، ما أن يطاردوا، ويقبض عليهم فى فترة معينة، ويتم تحرير مناطق، خاصة ذات الطابع الارستقراطى، منهم، حتى يظهروا من جديد.. وفى كل مرة، يشتد ساعدهم عما كانوا عليه، وأصبحوا الآن، على استعداد للنزال بالأسلحة البيضاء إذا دعت الضرورة.

جدنا العظيم، بيرم التونسى، بضميره الشعبى اليقظ، رسم بقلمه المرهف، فى العشرينيات، لوحة احتجاجية شجاعة، مطلعها: أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين/ ساحبين بتاعة حلاوة جاية من شربين/ شايلة على كتفها عيل عينيه وارمين/ والصاج على مخها يرقص شمال ويمين.. ومنذ ذلك الحين، يتوالى ذلك المشهد جوهريا، وإن اختلف فى بعض التفاصيل.. فى الستينيات، بدأت القاهرة تشهد بعض الزحام، وقيل أيامها إن الهجرة من الريف هى السبب، وإن القادمين يعملون باعة جائلين، وتفتق ذهن المحافظ، ووزير الداخلية، إلى حل تعيس.

ترحيل الغرباء، وغدا من المألوف أن ترى، فى الفجر، مجموعة من الرجال، ذيول جلابيبهم معقودة إلى بعضها بعضا، يساقون إلى خارج حدود القاهرة، وأصبح من المألوف أن ترى «ست غلبانة» تحاول، عبثا، أن تنقذ قفص البيض أو مشنة البلطى الصغير من براثن وحوش البلدية. وفى مشهد يخلو من كوميديا، تمر أمامك عربة شرطة كبيرة، تحمل عربة يد مصادرة، فوقها قدرة فول أو كوم ترمس.

مع تفشى البطالة، وندرة فرص العمل، دخل المهنة فئات جديدة، بعضها من المتعلمين، يبيعون الجوارب وملابس الأطفال، يفترشون بضاعتهم على الأرصفة، يدفعون إتاوات لأصحاب محال كى يخبئوا عندهم «رأسمالهم» حين تداهمهم الحملة.. الباعة الجائلون عرض لمرض أعمق غورا وأوسع انتشارا.. تجاهلته قنواتنا، سواء قبل أو بعد الثورة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات