عندما يتحول الدين إلى وسيلة مواصلات - عبد الفتاح ماضي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 8:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما يتحول الدين إلى وسيلة مواصلات

نشر فى : الإثنين 30 يناير 2012 - 9:15 ص | آخر تحديث : الإثنين 30 يناير 2012 - 9:15 ص

الجدل الحالى فى الكيان الإسرائيلى بين دعاة الالتزام الصارم بمبادئ الدين اليهودى ومظاهر الحرية الشخصية جدل قديم ويمكن فهمه من خلال إدراك الاختلاف الواضح بين جوهر الصهيونية والمرتكزات الدينية لليهود المتدينين الأرثوذكس، وحسم بن غوريون للعلاقة بين الدين والدولة قبل قيام هذه الأخيرة.

 

فبينما سعت الحركة الصهيونية إلى تأسيس دولة قومية فى فلسطين على غرار الدول الغربية، لم يعترف اليهود الأرثوذكس المتشددون بالصهيونية وكانوا يرون أن إقامة دولة يهودية قبل مجىء «المسيح المنتظر» كفرا وهرطقة، ومخالفة صريحة لتعاليم التوراة التى لا تعترف ببعث عيسى عليه السلام. وفى الوسط من هذين الموقفين طالب دعاة الصهيونية الدينية (وهو تيار دينى آخر تصالح مع الصهيونية واعترف بها بدعم من الحركة الصهيونية ذاتها) بتطبيق مبادئ الشريعة اليهودية «الهالاخاه» فى الدولة المنشودة.

 

وواقع الأمر أن قادة الدولة (وكانوا من الحركة الصهيونية العمالية الاشتراكية وعلى رأسهم ديفيد بن غوريون) استخدموا قيم وتقاليد ورموز الدين اليهودى لتعبئة الجماعات اليهودية من جميع أنحاء العالم خلف مشروعهم السياسى الاستعمارى، وأقاموا مؤسسات دينية تابعة للدولة إرضاء للأحزاب الدينية وقادتها.

 

●●●

 

آمن بن غوريون بدولة عصرية، حتى لو خالف ذلك ما ورد فى التوراة، فالعمل الصهيونى عنده هو الكفيل ببناء هذه الدولة والمحافظة عليها وليس الغيبيات والتعاليم الدينية. وسجل فى مذكراته أن المرة الأولى التى يذهب فيها إلى دار للعبادة فى فلسطين كانت بعد أربعين سنة على وصوله هناك للاستماع إلى صلاة شكر بعد افتتاح الجلسة الأولى لأول كنيست. للدين عند بن غوريون وظيفة محددة، أو كما قال: «الدين وسيلة مواصلات فقط، ولذلك يجب أن نبقى فيها بعض الوقت، لا كل الوقت».

 

وفى واقع الأمر لا تختلف رؤية بن غوريون للدين ودوره فى الدولة عن رؤى قادة الحركة الصهيونية وروادها الأوائل، وعلى رأسهم ثيودور هرتزل. فلم يكن هؤلاء يحترمون الشعائر الدينية أو التعاليم التوراتية والتلمودية، ولكنهم مع ذلك استخدموا الدين لدعم الفكرة الصهيونية، وصبغها بصبغة دينية تضمن لهم تأييد اليهود فى جميع أنحاء العالم، وخاصة المتدينين منهم فى شرق أوروبا، مركز معظم يهود العالم آنذاك.

 

وقد أسس بن غوريون عام 1947 العلاقة بين الدين والدولة المنشودة على أساس حل وسط تاريخى، فى شكل اتفاقية عقدها هو والوكالة اليهودية مع حركة أغودا إسرائيل (التى نشأت كحركة معارضة للفكرة الصهيونية وللدولة اليهودية فى فلسطين وخرجت منها أحزاب قائمة حتى اليوم منها أكبر الأحزاب الدينية الحالية وهو حزب شاس) سميت اتفاقية الوضع الراهن.

 

الاتفاقية ربطت بين الدولة ككيان سياسى حديث وبين مطالب المتدينين، وأرست ملامح العلاقة بين الدين والدولة فى إسرائيل منذ ذلك الحين وحتى اليوم. وقد جاءت الاتفاقية فى شكل رسالة أرسلها بن غوريون للحركة عشية زيارة لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة إلى القدس وهى اللجنة التى أدت توصياتها إلى صدور قرار تقسيم فلسطين. وكان من الأهداف الأساسية للرسالة الظهور بمظهر الجبهة الموحدة وبغرض تسهيل الحصول على قرار دولى بإنشاء الدولة اليهودية.

 

جاء فى رسالة بن غوريون تأكيد على أن الوكالة اليهودية ليست السلطة المخولة بوضع دستور للدولة المنتظرة، وإن قيام هذه الدولة يحتاج إلى «اعتراف الأمم المتحدة» وهو أمر مشكوك فيه إذا نشأت كدولة خاضعة للسلطة الدينية. وجاء فيها أيضا أن الهدف «ليس إقامة دولة ثيوقراطية»، وأن الدولة المزمع إقامتها ستضم مواطنين غير يهود، الأمر الذى يتطلب توفير حقوق متساوية للجميع (وهذا لم يحدث بالطبع حتى اليوم بالنسبة لغير اليهود).

 

وتعهدت الرسالة بالاستجابة إلى مطالب المتدينين، وعلى رأسها احترام يوم السبت واعتباره يوم الراحة فى الدولة المنشودة، اتخاذ التدابير اللازمة لتوفير طعام الكوشير فى كل مطبخ رسمى مخصص لليهود، تعهد من الوكالة بالعمل على تلبية المطالب الدينية للأرثوذكس فيما يخص الأحوال الشخصية، ضمان استقلالية كاملة لكل تيار فى مجال التعليم (كما هو معمول به حتى اليوم)، وأضيف لها عشية قيام حرب 1948 إعفاء النساء المتدينات من الخدمة العسكرية.

 

●●●

 

حققت الاتفاقية حدا أدنى من التعايش والتفاهم بين الجانبين العلمانى والدينى، ومهدت الطريق أمام إمكانية تشكيل حكومات ائتلافية بين الأحزاب العلمانية الكبيرة وبين الأحزاب الدينية الصغيرة منذ 1948 وحتى اليوم. وبموجبها ضمن قادة الدولة العلمانيون بقاء سياسات الأمن والاقتصاد والخارجية فى يدهم بجانب عدم انفراد الأحزاب الدينية بالشئون الدينية، مقابل تحقيق المتدينين الحد الأدنى من مطالبهم وتهدئة مخاوفهم من سحق السلطة العلمانية المصالح الخاصة بهم.

 

وبمجرد قيام الدولة، سيطرت الدولة على المؤسسات اليهودية الدينية القائمة وأنشأت مؤسسات دينية جديدة، بل وأقامت ما يطلق عليه فى أدبيات السياسة «الدين المدنى» للبلاد. وبرغم هذا ظل الصراع بين العلمانيين والمتدينين قائما حول قضايا كثيرة منها الدستور، مسألة من هو اليهودى، المرأة، السبت، التعليم، الخدمة العسكرية، الزواج المختلط، الأطعمة والذبائح، الآثار والحفريات، تشريح الجثث وزراعة الأعضاء، حائط البراق، وغير ذلك. ولهذا حديث آخر.

 

عبد الفتاح ماضي  أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية
التعليقات