ما وراء النار السوداء فى أمسية يابانية مضيئ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 5:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما وراء النار السوداء فى أمسية يابانية مضيئ

نشر فى : الخميس 28 أكتوبر 2010 - 9:35 ص | آخر تحديث : الخميس 28 أكتوبر 2010 - 9:36 ص

 مساء الأحد الماضى عشت وقتا طيبا برغم أنه كان منذورا لإحياء ذاكرة الألم، فقد دعتنى مؤسسة اليابان مشكورة لإلقاء محاضرة ضمن فعاليات أسبوع الفيلم اليابانى المُكرَّس لهيروشيما، وبرغم أننى لا أجد نفسى مستريحا ومتسقا مع نفسى إلا فى الكتابة، وأعتذر عن معظم إن لم يكن كل دعوة خارجها، إلا أننى لم أتردد لحظة فى قبول دعوة «مؤسسة اليابان» بالترحيب، بل بالامتنان لتوجيه هذه الدعوة لى، خاصة وقد كنت المُحاضِر الوحيد إضافة للمخرج اليابانى الكبير «ماساكى تانابيه» فى أسبوع هيروشيما.

وكان ترحيبى بالدعوة راجعا لسببين، أولهما أننى أعتبر نفسى مناهضا ليس للأسلحة النووية فقط، بل حتى لمخاطر الطاقة النووية الانشطارية فيما يسمى بالمفاعلات الكهرونووية، ومن ثم كانت الدعوة تتسق مع ما أعتقد أنه أحد واجباتى الأخلاقية فى الحياة.

أما السبب الثانى لترحيبى بالدعوة اليابانية، فهو معرفتى بأن اليابان هى قوة دولية عُظمى خيِّرة وحسنة النوايا تجاهنا، لا تقدم لنا إلا كل ما هو جميل ومفيد وغير ضار بالبيئة والحياة، وليس لها أية أجندات سياسية خفية كغيرها، وقائمة ما قدمته اليابان لمصر طويلة ونبيلة، أذكر منها: مستشفى أطفال جامعة القاهرة الجديد، دار الأوبرا المصرية، كوبرى السلام فوق قناة السويس، محطة توليد الكهرباء من طاقة الرياح بالزعفرانة، محطة الطاقة الشمسية بالغردقة، وهذين المثلين الأخيرين تحديدا هما أكثر ما يجعلنى ممتنا لليابانيين، ليس فقط كون هذا يتسق مع إيمانى العميق بأن سلامة الإنسان فى سلامة البيئة، بل أيضا لأن هذا الاتجاه فى الحصول على الطاقة من مصادر طبيعية متجددة هو مضاد لما أُناهضُه من مصادر ملوثة بل قاتلة للبيئة، كما أن هذه الطاقة النظيفة الجديدة والمتجددة هى أمل المستقبل لنا وللبشرية، عندما يستنفِد شياطين البشر طاقة النفط والغاز وبقية الموارد الأحفورية، ويصل العالم على متن جشعهم وشراهتهم للأرباح، إلى درجة الاختناق بغازات الدفيئة، والغرق نتيجة الاحترار الذى يسببه تراكم هذا الغازات.

 


مهذبون ومتواضعون هؤلاء اليابانيين برغم عظمتهم العلمية والتقنية وغناهم الاقتصادى، وهذا لا يتحقق إلا عندما يكون هناك غِنىً داخلى مستقر على أسس وتقاليد حضارية حقيقية، وهو ما نراه فى عطائهم للدول النامية والفقيرة بلا مَنٍّ ولا ابتزاز، بلا تخريب منظم كما فى مِنح أُخرى من جهات أخرى تُقدَّم لنا ولغيرنا. وقد لمست هذا التواضع والتهذيب الجم فى اليابانيين كأفراد خلال أمسية الأحد النبيل الفائت، فلم يكتف بتقديمى تقديما وافيا مدير مؤسسة اليابان «ساتو كوجى»، بل تكرم بتقديمٍ إضافيٍ لى الوزير والديبلوماسى اليابانى «ماسامى كينيفوتشى» ولمست ودا جميلا من الديبلوماسيين «ما يومى كينوشيتا» و«هاجيمى كيشيمورى» مدير مركز الثقافة والإعلام، و«أياكو» نائبة مدير المؤسسة.

فكأننى كنت ضيفا على أسرة إنسانية، لا مجرد مشارك فى فعالية ثقافية عامة، وهى ظاهرة حضارية لابد أنها ترتبط بالتراث الشرقى اليابانى العريق راقى البساطة والدفء الإنسانيين.

قُبيل محاضرتى عُرض فيلم تسجيلى قصير عن هيروشيما اسمه «صلاة أم»، ويبدأ بمشهد لأم عجوز ظلت لخمسة وأربعين عاما تستيقظ فى كل صباح باكر لتزور ابنها الذى كان وهو بعد فى المدرسة الإعدادية، من ضحايا القنبلة الذرية التى أُسقطت على هيروشيما فى صباح الاثنين 6 أغسطس 1945، ثم توالت مشاهد الفيلم المليئة بآلام المحرقة النووية فى هيروشيما، وهى مشاهد تُبكى القلب وتُدمى العيون، مما دعانى فى بداية محاضرتى أن أعترف بأننى لم أصفق مع الحضور بعد انتهاء الفيلم، لأننى أحسست أننى أريد أن أنحنى مغرورق العيون لهذا الألم الهائل العميق، ثم أنحنى لقدرة اليابانيين على الصعود فوق الألم، والتحليق بعظمة مبدعة فى كل مجالات الحياة، ومد يد العون للبشر الآخرين بلا مَنٍّ ولا التواءٍ ولا ابتزاز. لقد انتصروا على «النار السوداء

 
والنار السوداء كانت محور محاضرتى الموجزة التى استغرقت نصف الساعة، فقد لاحظت أن هناك تعبيرا يكاد يكون هو نفسه، لوصف النار المشتعلة فى أعقاب القصف النووى لهيروشيما، كما وصْف الحريق فى مفاعل تشيرنوبل الذى عايشت وقائعه وتعقبت تبعاته. ففى الساعة 8 و15 دقيقة و14 ثانية من صباح يوم السادس من أغسطس 1945، وفى أعقاب إلقاء القنبلة الذرية الأولى فى تاريخ المجازر البشرية النووية على هيروشيما، قال الضابط «كيرون» الذى كان مكلفا بتصوير عملية القصف من إحدى طائرتين مصاحبتين للطائرة التى ألقت القنبلة: «ياللشيطان، إن ذلك مستحيل! ظلمة تموج وتغلى».

 

وبعد ذلك بأربعين سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما، وفى تمام الساعة الواحدة و23 دقيقة و48 ثانية من ليلة السادس والعشرين من أبريل 1986، استيقظ أحد رجال الإطفاء الأوكرانيين على صوت الإنذار من النوع الثالث يصدر عن محطة تشيرنوبل الكهرونووية، ووصف الرجل النار المتصاعدة عبر السقف المنهار للوحدة الرابعة من المفاعل المنكوب بأنها «كانت نارا سوداء تتأجج!»

ظلمة تغلى، ونار سوداء، تعبيران يكادان يكونان وصفا للشىء نفسه، وهو شىء مرعب لأنه خارج المألوف البشرى عن النار الحمراء التى نعرفها، ويوحى بأن تلك النار النووية السوداء شريرة وشيطانية على نحو ما، شيطانية بشرية، وما وراء بشرية ربما، وهو، أى تعبير النار السوداء، ظل يتشبث بذاكرتى منذ وقَعتُ عليه عام 1986 فى تشيرنوبل، وكان مدهشا أن أعثر على مثله فى هيروشيما أثناء إعدادى للمحاضرة، فأنا مؤمن أن وراء كل مظهر مادى دلالة معنوية من جنسه، فلابد أن سواد هذه النار الاستثنائى كان وراءه سواد معنوى ما، وقد عثرت على هذا فى سواد المجتمع البوليسى والبيروقراطى السوفييتى الفاسد الذى تمخضت عن سوءاته الخفية كارثة تشيرنوبل، كما رأيته فى سواد القلوب والضمائر التى أعدَّت القنبلتين الذريتين الأمريكيتين ونفذت بهما المحرقة الأولى فى «هيروشيما»، ثم المحرقة الثانية فى «نجازاكى».

لقد تتبعت فى بحثى مسار المؤامرات والسرقات العلمية والقرصنة التقنية والخبث الذى نشأ بين جدرانه السرية مشروع «مانهاتن»، لبناء القنابل الذرية الأمريكية، وتعقبت أكاذيب الرئيس «ترومان» فى مؤتمر «السلام»! وبلادة ضمائر بعض العلماء الذين شاركوا فى ذلك المشروع الشيطانى، ثم ركَّزت على التفاهة الإنسانية والخفة المنحطة لطواقم «القلاع الطائرة» الثلاث التى نفذت القصف على هيروشيما، هؤلاء الذين كانوا فرحين يمزحون ويدندن أحدهم أغنية «رحلة عاطفية»، ويستمتع الآخر بمنظر المحيط، ويبتهج غيره بالصورة الخلابة لكرة النار النووية، الكرة الجحيمية التى أحرقت 80 ألف إنسان ماتوا على الفور، و320 ألفا غيرهم غربلت خلاياهم الإشعاعات المميتة للفطر الذرى السام الذى ارتفع فوق المدينة ثم هبط عليه برماد أسود!

سواد نار ورماد، يعكسان حرفيا سواد بلادة النفوس وسواد الكذب وسواد الغرور القاتل للآخرين وسواد التعامى عن الحق وسواد عبادة القوة بأى ثمن. سواد الغطرسة التى تُحوِّل الإبادات البشرية إلى أرباح قذرة تدفئ جيوب الاقتصاديات القذرة للمنتصرين على المدنيين العُزَّل والذين لا حول لهم من الأطفال والنساء والمسنين.

هذا ما رأيته جليا خلال بحثى عما وراء تلك النار السوداء، وهى رؤية يصح تطبيقها على أى نيران سوداء أو سحب سوداء أو مناخ أسود فى أى مكان يسعى فيه بعض البشر المتشيطنين إلى الانتصار بالقوة والغصب والتحايل، دون أى اعتبار للاستحقاق العادل والحق.

وبهذه المناسبة، وفى غضون هذين الأسبوعين اللذين لم أتمكن خلالهما من كتابة مقالى الأسبوعى فى هذه المساحة، غمرتنى بالمحبة مكالمات ورسائل بريد إلكترونى صادقة من أعزاء أعرفهم وآخرين لا أعرفهم، يعبِّرون عن قلقهم أن أكون تعرضت لضغوط أو عصف من ذلك الغبار الأسود الملتبَس الذى يلف أجواءنا فى هذه الفترة، وللحق والحقيقة، فإننى لم أتعرض لأية ضغوط، ولا حتى تلميحات، ولا إيحاءات من أى نوع، حتى هذه اللحظة، وكل ما فى الأمر أننى كنت مرهقا، ومُحبَطا بالتأكيد من المناخ السياسى العام الذى يحيط بنا، ليس من ممارسات الحكم فقط، بل من سلوك قطاعات ليست هينة فى المعارضة، كما كنت مُحاصَرا بزحمة كتابات كان لابد أن أنهيها، وكِتاب لم أجد وقتا ولا مِزاجا لمراجعة بروفته النهائية التى تنتظرها المطبعة منذ ستة أشهر، كما أن النص الذى أكتبه كل يوم جمعة، فى إطار أقرب إلى الأدب الساخر، يأخذ منى وقتا وجهدا ينوب عن مقال الخميس الذى سأعتذر عن تقديمه لأسبوعين قادمين.. حتى ينتهى نشر هذا النص.

لقد أنهيت محاضرتى فى تلك الأمسية اليابانية النبيلة بذكر مشهد يتكرر فى هيروشيما سنويا، فعند مغيب يوم 6 أغسطس من كل عام، وحيث تكون كل أضواء المدينة مطفأة، ينزل إلى النهر آلاف الناس الصامتين ليضع كل منهم على سطح الماء مصباحا ورقيا عائما يمضى به التيار مع أمواج آلاف المصابيح التى تشبهه، فيبدو النهر متلألئا بفيضٍ متحركٍ من الأضواء.

ولقد رأيت فى هذه الأضواء ليس فقط دعوة للسلم العالمى ونبذ الأسلحة النووية، بل أيضا إضاءة لذاكرة الألم، تلك الذاكرة البشرية التى تجنح عادة للنسيان، وهذه إحدى وسائل مناهضة النار السوداء، كل نار سوداء، وسُحب سوداء، وضباب أسود.

كم نحن فى شوق للشفافية، والحق الذى ينبغى أن يكون دائما فوق القوة، والصدق حتى مع الخصوم.
وألقاكم على خير.. ألقاكم فى النور.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .