الشيـخ حسونة.. يترك قطار الثورة - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 8:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشيـخ حسونة.. يترك قطار الثورة

نشر فى : السبت 28 يوليه 2012 - 10:40 ص | آخر تحديث : السبت 28 يوليه 2012 - 10:47 ص

فى الكثير من الأحيان، يرتبط اسم الممثل الكبير، بدور معين، حقق به شهرته الواسعة وكان سببا فى نجوميته، كأن الفنان خلق لهذا الدور بقدر ما خلق الدور له.

 

تاريخ فن التمثيل، يؤكد بوضوح وبلاغة هذه الظاهرة سواء على المستوى العالمى أو المحلى.. وسواء فى مجال المسرح أو السينما.. سارة برنارد، الممثلة الفرنسية التي يصفها كتاب عصرها بـ «النابغة»، سحرت جمهورها، داخل وخارج بلادها، بمعظم الأدوار التي أدتها على خشبات المسارح. لكنها، وصلت إلى درجة رفيعة من الاكتمال، عندما تقمصت شخصية «هاملت».. وبرغم أن أورسون ويلز، المفتون بتراجيديات ويليام شكسبير ـ قدم العديد من أبطالها ـ فإن أداءه لدور «عطيل»، يعد إنجازه الأكثر أهمية والأعمق تأثيرا.

 

كذلك الحال فى مصر. لمعت روزاليوسف فى أدائها الذى أبهر جمهور مسرحها، لشخصية الصبى «دافيد كوبرفيلد»، المعدة عن رواية تشارلز ديكنز التى تحمل ذات العنوان.. وإذا كان  يوسف وهبى وجد فى «راسبوتين»، تلك الشخصية العاتية التى تمنحه فرصة تأكيد قدراته على أكمل وجه، حسب مفاهيم وقيم عصره، فإن أداء أمينة رزق لـ«غادة الكاميليا»، الذى أسال دموع المتفرجين فى الثلاثينيات، أكد حضورها القوى كواحدة من أهم الممثلات، لعقود طويلة قادمة.

 

المتأمل لتاريخ النجوم، أو الممثلين الذين أصبحوا كبارا، يجد أن الواحد منهم يعيش فى البداية متخبطا، فى أدوار قد تكون جيدة أو رديئة. لكن فى لحظة ما، كما لو كانت موعدا مسبقا، تتاح له فرصة أداء ذلك الدور الذى ينطلق به إلى آفاق، ربما من المتعذر أن يصل إليها.. لولا تحقق هذا الموعد.

 

بالنسبة ليحيى شاهين (28 يوليو 1917 ـ 19 مارس 1994) جاء هذا الموعد فى 30 أكتوبر 1944، حين وقف على خشبة المسرح ليؤدى دور البطولة فى مسرحية «مرتفعات وذرنج».. نجح العرض نجاحا هائلا، وعن ليلة الافتتاح، كتب مخرجها، فتوح نشاطى، فى مذكراته «ظهرت مرتفعات وذرنج على مسرح الأوبرا ونجحت نجاحا أسطوريا، ومثل الجميع أدوارهم ـ كالملائكة ـ كما يقول الفرنسيون، وعلى رأسهم يحيى شاهين الذى عايش دور هينكليف معايشة عميقة رائعة.. ولد فى تلك الليلة وفى الليالى اللاحقة ممثلا كبيرا لم يلبث رجال السينما أن تخاطفوه خطفا.

 

 

 

الانفعالات الحادة

 

«مرتفعات وذرنج»، الرواية الوحيدة التى كتبتها اميلى برونتى، وجد يحيى شاهين فى بطلها ما يتوافق مع مزاجه وطبيعته الفنية. هيثكليف، المتجهم، العنيف دامى القلب، المهزوم، الفقير، المرفوض فى البداية من قبل حبيبته «كاترين» وأسرتها الغنية.. يختفى منسحبا، طوال ثلاث سنوات، يعود بعدها وقد أصبح ثريا، أنيقا، وجيها.. وها هو يندفع محموما ليثأر من الذين أذلوه وأهانوه، بمن فيهم «كاترين» نفسها، التى تزوجت وغدت أما، ولكن المرض تمكن منها.. هيثكليف، يغدو قلبه نهبا لانفعالات عاصفة، متناقضة، ما بين الحب الهائل والحقد المر. تتنازعه الرغبات. يريد أن يمتلك حبيبة لم تعد له، وأن ينتقم من العالم كله.. إنه يكره، ويعشق، يتعذب ويدمر، يذيق حبيبته، حلمه الضائع، ألوانا من الألم.. إنه أقرب إلى الوحش الجريح. وحين تموت «كاترين» بين ذراعيه، يكاد يقترب من حافة الجنون.

 

هذا الدور المهم، هو جوهر أدوار يحيى شاهين.. فأدواره، فى مستوياتها الأفضل، فى عشرات الأعمال التالية تعد تنويعات على هذا الدور الذى يبدو أقرب إلى اللحن الرئيسى فى المعزوفة الموسيقية. بل يمكن القول بأن الكثير من الوجوه التى جسدها، هى أقرب إلى الأقنعة التى مهما اختلفت درجة شفافيتها، فإن ملامح «هيثكليف» تظل واضحة تحتها.

 

وليست مصادفة أن يختار يحيى شاهين «مرتفعات وذرنج» لينتجها، سينمائيا، ويقوم ببطولتها بعد أكثر من عشرات سنوات، منذ قدمها على خشبة المسرح، وذلك فى فيلم «الغريب» 1956، الذى اشترك فى إخراجه كمال الشيخ، مع فطين عبدالوهاب.

 

 

 

فتح الأبواب

 

جاء يحيى حسن شاهين ـ وهذا اسمه ـ إلى السينما من عالم المسرح. فى عام 1935 التقى بالممثل ردمون تويما فى مكتب مدير شركة نسيج بنك مصر. كان يحيى شاهين تخرج بتفوق فى مدرسة الفنون التطبيقية، وتم ترشيحه للسفر إلى «لانكشير» فى بعثة لدراسة فن النسيج. وبينما هو يعد آخر أوراقه فى المكتب المذكور، عرض عليه تويما، المثقف، المترجم، صاحب العين المرهفة، أن يلتحق بالفرقة القومية المنشأة حديثا، التى ستراعيها الحكومة.. وافق الشاب فورا. وبدلا من ذهابه إلى انجلترا، ذهب إلى «الفرقة القومية»، حيث قابل مدير الفرقة، الشاعر خليل مطران، ووقع معه عقدا براتب كبير ـ حينذاك ـ قدره ثلاثة جنيهات شهريا.

 

الواضح أن كلا من إدمون تويما، وخليل مطران، أدركا بحسهما الصادق ما تتمتع به شخصية الممثل الجديد: حضور عميق، مؤثر، ثقة فى النفس، جرأة مهذبة. وجه على درجة كبيرة من الصفاء، متسق الملامح، حيوية تبلغ حد الحماس، واستعداد للعمل بلاكلل.. ولم تخب تقييمات وتوقعات تويما ومطران.

 

عايش الفنان الناشئ كبار الممثلين، على خشبة المسرح وفى الكواليس: جورج أبيض، حسين رياض، فؤاد شفيق، أحمد علام، عباس فارس، سراج منير، زكى رستم، دولت أبيض، زينب صدقى، أمينة رزق، نجمة إبراهين، زوزو حمدى الحكيم.. وتابع، فى البروفات توجيهات وملاحظات المخرجين المثقفين الذين ضمتهم الفرقة: زكى طليمات، فتوح نشاطى، عزيز عيد.. وتعرف على روائع المسرح العالمى: «أوديب» لوفكلميس، «الملك لير» و«تاجر البندقية» لوليام شكسبير، «السيد» لكورنيل، «أندروماك» لراسين، فضلا عن المسرحيات المحلية، مثل «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم، و«قيس وليلى» لأحمد شوقى.. ولا يستطيع المرء أن يخفى إعجابه بإنجازات المسرح المصرى، عبر تاريخه الطويل، الزاهر.. وفى ذات الوقت، يحس بالأسى، وتنتابه المخاوف، بسبب قوى الظلام المتصاعدة فى الحاضر، التى ترمى إلى نشر العتمة فى حياتنا الفنية، تاريخا وواقعا، وربما.. مستقبلا.

 

 

 

الانطلاق

 

بعد «مرتفعات وذرنج» بدأت البطولات: «رواية» لنيازى مصطفى 1946، «سلطانة الصحراء» لنيازى فى العام التالى، «ليلى العامرية» لنيازى أيضا فى عام 1948. وفيما يبدو أن نيازى مصطفى وجد فى قوة ومتانة بنيان يحيى شاهين، فضلا عن جهارة صوته، ما يلائم الأدوار البدوية، بتلك اللهجة الفريدة التى برع فى صياغتها بيرم التونسى، وكانت من أهم أسباب انتشار الفيلم المصرى خارج الحدود، فى المشرق والمغرب العربى.

 

ظهر يحيى شاهين فيما يقرب من المائة فيلم، عمل مع أجيال ومدارس مختلفة من المخرجين. كل منهم وجد فيه جانبا يعبر به عن رؤية ما، والبعض أدرك ما يملكه من طاقة وقدرة، فمنحه عدة أدوار متباينة إن لم تكن متناقضة.

 

مع يوسف شاهين فى «ابن النيل« 1951، ينهض يحيى شاهين بشخصية الفلاح المرتبط بأرضه، المحتضن لأسرته، معبرا، بخطواته الواثقة، وصوته الرصين، وعزيمته التى لا تلين، عن الفلاح المصرى فى أصفى وأنبل حالاته.. وعلى النقيض من هذا الدور يظهر فى «سيدة القطار» لشاهين 1952 كرجل فاسد حتى النخاع. زوج مطربة شهيرة «ليلى مراد»، يبتزها، يسرقها، يدمن القمار إلى الدرجة التى لا يتورع فيها عن الاختلاس، والتزوير.. ثم يحاول قتلها.. وإذا كان شاهين، بوداعته فى «ابن النيل» يذكرنا على نحو بـ«هيثكليف» فى مرحلته الثانية.

 

اسم «الشيخ حسونة» يرتبط فى الأذهان بيحيى شاهين. إنه أحد أبطال «الأرض» ليوسف شاهين 1970. إنه هنا، مثل محمد أبوسويلم «محمود المليجى» من أبطال ثورة 1919.. يعود من القاهرة إلى أرضه ليقف مع الأهالى ضد مصادرة الأرض، معلنا ضرورة أن تقف البلد وقفة رجل واحد.. لكن حين يلتقى الباشا المناور، الذى يلوح له بوعد بالغ الإغراء: لن تمس أرضك.. عندئذ، يشعرنا يحيى الشاهين، وهو صامت أن «ثوريته» تبددت فى لحظة وأنه، بلا تردد، قبل الصفقة، ويبدو كما لو أنه يريد أن يرحل سريعا إلى المدينة، هاربا، ويحاول، بصعوبة، أن يخفى عصبيته، فهو يعلم تماما أنه ترك قطار الثورة، وباعها.. هكذا، كأن يوسف شاهين، ويحيى، بعدما يزيد على أربعة عقود، يتحدثان عن بعض وجوه الأيام التى نعيشها الآن.

 

فى العام 1953، مثل يحيى شاهين شخصية «بلال.. مؤذن الرسول» لأحمد الطوخى، وبرغم تواضع الفيلم فنيا، فإن يحيى استطاع أن يعبر عن قوة الإيمان بداخله، الأمر الذى جعله يتحمل، بإرادة، قسوة ذوى القلوب المظلمة. النور الداخلى لبلال، انتقل معه، على نحو ما، فى أفلام لاحقة، لعل أهمها «جعلونى مجرما» لعاطف سالم 1954. إنه رجل الدين الورع، الرحمة تترقرق فى عينيه المضيئتين بالمحبة والشفقة. إنه ملجأ الضائع، المطارد «فريد شوقى». إن يحيى شاهين، بأدائه المتزن، وملامحه التى يكسوها طابع روحانى شفاف، يمنح هذه الشخصية «الثابتة»، حضورا محببا، أقرب إلى العطر الرقيق، الذى يضفى على الجو القاتم، نسمة حانية.

 

فى مقابل النماذج الثابتة، ذات البعد الواحد، فى «ابن النيل» و«بلال» و«جعلونى مجرما»، قدم يحيى شاهين العديد من الشخصيات ذات الأبعاد المتعددة، التى تتطور، وتنتقل من حال لحال. فى «هذا هو الحب» لصلاح أبوسيف 1958، نشهده كحبيب رقيق، يعيش أياما حلوة مع عروسه «لبنى عبدالعزيز».. لكن الشك يداهمه، فيغدو وحشا جريحا.. وفى «المعلمة» لحسن رضا 1958، المأخوذ عن «عطيل» لوليام شكسبير، نتابع مخالب الشك الشرسة وهى تعتمل فى قلبه، وها هو فى «لا أنام» لصلاح أبوسيف 1957، يكاد الجنون يطبق عليه من هول الشك.. وربما لن يجد الباحث ممثلا أفضل من يحيى شاهين فى مجال التعبير عن وطأة وعذاب الشكوك، وقد يجد فى «رجل بلا قلب» لسيف الدين شوكت 1960 إبداعا متفردا فى رصد حالة الرجل الذى وقع فى قبضة الشك، فالمصور الكبير، عبدالحليم نصر، يتعمد أن يجعل نصف وجه يحيى شاهين غارقا فى الظلام، ويبدو كما لو أنه يتصبب عرقا.. ولأنه يظن أن زوجته خانته مع رجل يمتطى جوادا، فإن واضع الموسيقى المصاحبة، أندريه زنديلس، تعمد أن يجعل من صوت حوافز الجواد، الممتزج بموسيقى مقبضة، مصدر عذاب للبطل.

 

 

 

الثابت.. والمتغير

 

الكثير من أدوار يحيى شاهين، تستحق وقفات طويلة، تفصيلة، من الصعب تحقيقها هنا، ولكن الحديث عن فناننا، لا يمكن أن ينتهى من دون الإشارة، والإشادة، بدوره الأخاذ، فى ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، التى أخرجها حسن الإمام: «بين القصرين» 1964، «قصر الشوق» 1967، «السكرية» 1973.

 

حافظ يحيى شاهين على جوهر شخصية أحمد عبدالجواد، ليس فى الفيلم الواحد، ولكن فى الأفلام الثلاثة، واضعا نصب عينيه، فعل الزمن، وما يحدثه من تغيرات، طبقا لقانون الضرورة.. إنه يتفهم تماما، الثابت الذى يظل باقيا، والتغير الحتمى الذى لابد أن يحدث.. فى «بين القصرين» التى تبدأ قبل ثورة 1919، يبدو أحمد عبدالجواد فى قمة الصحة، فائر الرجولة، يقف على أرض اقتصادية صلبة، صاحب إرادة من حديد، يفرد ظله القوى، المسيطر، فى البيت والعمل، وحتى فى عوامة المجون.. يعبر يحيى شاهين عن تلك الملامح بنظراته الواثقة وحركته الوئيدة، فضلا عن إحساس داخلى بالثقة فى النفس.. وفى «قصر الشوق» يتعرض لما يشبه الهزيمة، حين ترفض الغانية زنوبة ـ بأداء نادية لطفى ـ أن تصبح خليلته. يهتز، خاصة أنه أحبها فعلا، بالإضافة إلى أنه لم يتعود أن يكون مرفوضا.. لكن أحمد عبدالجواد، يسترد صلابته وقواه وكبرياءه. لقد بدا ضعيفا فى لحظة، بحكم الوهن الذى يتسلل إليه مع الزمن، لكن «ثوابته» تحميه.. وفى «السكرية» يغدو عجوزا، منهك الصحة، يحتاج للمساعدة.. ومع هذا، يحاول يحيى شاهين الاعتماد على ذراعيه حين يرفع جسمه الممدد على الفراش ليسند ظهره على الوسائد، كما لو أنه يؤكد عنصر القوة والصلابة الأصيل فى شخصيته.. يحيى شاهين، أحد ملامح الفن المصرى، خلال نصف قرن من الزمان.

 

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات