رحلة النصف قرن من الشاب الحبِّيب .. إلى وزير الداخلية - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 7:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحلة النصف قرن من الشاب الحبِّيب .. إلى وزير الداخلية

نشر فى : السبت 27 أغسطس 2011 - 2:47 م | آخر تحديث : السبت 27 أغسطس 2011 - 2:47 م

 فى أثر من آثارها، أدت ثورة 1919 إلى ظهور وازدهار طبقة الأفندية من ناحية، واتساع العاصمة وازدياد عدد سكانها من ناحية أخرى، ولأن السينما فن مدينة، من الصعب أن يتحقق فى المناطق الصحراوية أو الريفية، فإن السينما المصرية وجدت مناخا ملائما لانطلاقها خلال الثلاثينيات والأربعينيات، خاصة بعد إنشاء العديد من الاستوديوهات ودور العرض، الأمر الذى تطلب وجوها سينمائية تلبى حاجة الأفلام لنجوم تتجاوب مع مزاج جمهور معظمه من الأفندية، أو على الأقل، يتطلع إلى أن يغدو، هو أو أولاده، من ذوى الياقات البيضاء، برغم أن «الأفندى» لم يكن مرتاحا أو سعيدا، سواء فى الواقع أو على الشاشة، ولكن كان وجيها، محترما، متحضرا، عاشقا ومحبوبا.. من هنا تبلورت صورة حسين صدقى فى «العزيمة» لكمال سليم 1939، حيث بدا مهذبا، متعلما، ينافس «الجزار»، البدائى الشرس، على قلب بطلة الفيلم «فاطمة رشدى».. وفى ذات العام يظهر محمود ذو الفقار بطلا لـ«بياعة التفاح» لحسين فوزى، المأخوذ عن أسطورة «بجماليون»، وطبعا، يحاول الأفندى الارتقاء ببائعة التفاح «عزيزة أمير».. وقبل انضمام شكرى سرحان لطابور الأفندية فى «نادية» لفطين عبدالوهاب 1949، ليرتدى هذه المرة ملابس الضباط ويستشهد فى حرب فلسطين الأولى، يطالعنا عماد حمدى، فى أول أفلامه «السوق السوداء» لكامل التلمسانى 1946، ليتصارع ضد التاجرين: عبدالفتاح القصرى وزكى رستم. إنه يذكرنا فى بعد من أبعاده، بزميله الوقور، حسين صدقى أفندى، وإن جاء عماد حمدى، أعمق منه وعيا، وأشد استنارة.


مولد نجم

كان المناخ مهيأ لاستقبال كمال الشناوى فى «غنى حرب» لنيازى مصطفى 1947، كذلك دخل النجم الجديد عالم السينما مدعما بأسباب النجاح، مضمونا وشكلا: ثقافة سياسية ومعرفة أدبية، استقاها خلال سنوات نشأته فى مدينة المنصورة العامرة بمكتبة عامة تحتوى آلاف الكتب، ثم نشاط مسرحى على خشبة مسرح المدرسة، والأهم، التحاقه بمعهد التربية للمعلمين، بالقاهرة، لدراسة فن الرسم، مما أدى إلى ازدياد وعيه وإحساسه بإيحاءات الألوان ومعانى تعبيرات الوجوه.. أما من الناحية الشكلية فإنه، إلى جانب اتساقه الجسمانى، وجمال ملامحه الرجولية، يوحى بالألفة، والصدق، والثقة. هادئ، بعيد عن الانقلابات الانفعالية، رزين، صاحب شخصية واضحة. عيناه تبتسمان قبل شفتيه، وتغضبان قبل التعبير عن الغضب بالكلمات. وربما لأنه لم يقف فوق خشبة المسرح طويلا، تجد صوته لا يكاد يرتفع ولا يطلق من عقيرته صياحا، ولكن يلون صوته بالإحساس الذى يريده. باختصار، ومن دون مغالاة أو افتعال.. طوال عدة عقود، ومئات الأفلام، لم يرتد جلباب الفلاح أو عفريتة العمال، متأنق غالبا، إنه أفندى بامتياز.

اختلف كمال الشناوى عن نجوم عصره، فهو ليس غارقا فى الأحزان كما الحال عند عماد حمدى، وليس متزمتا أخلاقيا، ولا يدمن إلقاء المواعظ على طريقة حسين صدقى، ويتجنب اندفاعات أنور وجدى، وليس فاترا كما محمود ذو الفقار، ولا يوحى بصغر السن الذى ظل ملازما لشكرى سرحان طوال فترة غير قصيرة.. إنه وإن كان له لون واحد، لكن هذا اللون متعدد الدرجات، يميزه عن زملائه.. الأفندية.

ما إن عرض «غنى حرب» حتى أدرك الجميع أنهم بإزاء وجه جديد، على درجة كبيرة من النضارة، وشخصية تلبى احتياجا عند الجمهور، وتغطى مساحة من الأفلام المتزايدة عددا، عقب الحرب العالمية الثانية، وفورا، توالت العروض عليه، وأصبح من الواضح أنه سيتفرغ تماما للتمثيل.


أرمان دوفال

أنفاس مارجريت جوتييه المتهدجة، المترعة بالوهن والمرض، الأخيرة، لم تبك حبيبها أرمان دوفال فحسب، بل جعلت جمهور المسرح والسينما، فى معظم بلاد الدنيا، ينهنه، ويجفف دموعه.. ميلودراما «غادة الكاميليا» التى كتبها ألكسندر ديماس الابن، تسللت من المسرح الفرنسى، إلى المسرح المصرى، ثم السينما المصرية، لا لتظهر ممصرة فى ستة أو سبعة أفلام فقط، تعترف بها كمصدر، ولكن لتلقى بظلالها على عشرات الأفلام، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر «بنات الليل» و«الجسد»، لحسن الإمام 1955.. وبرغم التغييرات والاختلافات بين الفيلمين من ناحية، و«غادة الكاميليا» من ناحية أخرى، فإن أصداء الأصل تتوافر فى تلك الغانية التى تنغمس فى المجون، ولكنها ترنو إلى النور الذى يتمثل فى الفارس المنقذ، الشهم النبيل، ارمان دوفال، الذى يجسده، فى الفيلمين، كمال الشناوى، حيث يبدو أهلا للثقة، تعقد عليه الآمال، من الجمهور والغانية، فى انتشال المرأة التعيسة، ضحية مجتمع قاس لا يرحم.. وأيا كانت الأسباب، يفشل «الأفندى» فى إنقاذ الحبيبة التى تموت، فى النهاية، بين يديه.

كمال الشناوى، أرمان دوفال، لا يفشل بالضرورة فى إنقاذ الحبيبة، ذلك أن النهاية السعيدة، من الشروط المهمة فى الكثير من الأفلام المصرية، وبالتالى يتزوج من الفتاة الفقيرة، كسيرة الفؤاد، بسبب والدها الذى سجن ظلما فى «ظلمونى الناس» لحسن الإمام 1950، ويعود إلى حبيبته القعيدة وابنتها التى أنجبتها منه فى «وداع فى الفجر» لحسن الإمام 1956.. وسواء كانت الأفلام قاتمة، حزينة، أو مبهجة، سعيدة، فإن أداء كمال الشناوى يكاد يكون موحدا، أقرب للكليشيهات المحفوظة، يعتمد فيها على ابتسامته الساحرة، المشرقة، ونظراته الصادقة، التى تعبر عن انفعالات بسيطة، أحادية الجانب، مثل الانزعاج أو السرور أو الحب أو الغضب.. وهو، فى كل هذا، لا ينسى أنه «نجم»، يحافظ على تأنقه، بشعر رأسه اللامع، الناعم، ولفتاته المتأنية، وشاربه «الدوجلاس» الرفيع، وصوته الرخيم، بنبراته الواضحة، فضلا عن حركته المتأنية، وشعوره الدائم بالثقة.. وعن هذه المعالم الموحدة، التى ينتقل بها من عمل لآخر، يقول للناقد الكبير على أبوشادى، فى الكتاب الذى صدر عنه بعنوان «شمس لا تغيب»: بدأت أشعر أننى لا أقدم جديدا. وكنت أرى أن السيناريوهات المعروضة علىّ قد سبق لى أن مثلت أدوارها من قبل فبدأت اعترض على هذه الأدوار وبدأت أميل للأدوار الأكثر عمقا.. والطريف أننى كنت أحاول حتى فى الأدوار الخفيفة أن أقدم بعض الانفعالات والتعبيرات الإيمائية أثناء إلقاء الحوار.. إلا أننى كنت أفاجأ حين أشاهد الفيلم بأن مجزرة قد حدثت وحذفت الأجزاء التى حاولت فيها أن أقدم أداء مختلفا أو تعبيرا عن موقف ما.. كان المخرجون والمونتيرون يريدون حوارا طويلا تبدأ به اللقطة وتنتهى به.


أدوار.. ذات شأن

عادة، يحقق الممثل نجاحا مرموقا عندما يؤدى دورا مناقضا أو مختلفا عن أدواره التقليدية، وهذا ما حدث مع كمال الشناوى الذى ارتفع بالعديد من أفلام قدمته بألق غير مسبوق، فها هو فى كوميديا «سكر هانم» للسيد بدير 1960، يطالعنا على نحو يختلف عما بدا عليه فى أفلام بدا فيها «دون جوان» لا يشق له غبار، تخفق بحبه قلوب البنات، وتتوله النساء فى رجولته.. هنا، فى «سكر هانم»، يتابع، محبطا، مكبل الإرادة، ما يجرى لحبيبته التى انفرد بها صديقه، عبدالمنعم إبراهيم، المتخفى فى زى امرأة، ويجعلها ترقص له، وتميل عليه ليلثم خدها، بل يطرد الدون جوان المهزوم من الحجرة، ولا يستطيع كمال الشناوى، المحتقن غضبا، أن يفعل شيئا سوى الإذعان، لخوفه من اكتشاف أمره، ويستسلم صاغرا، مرتبكا، لأوامر صديقه، نهاز الفرص.

مرة أخرى، يثبت كمال الشناوى جدارته كفنان مرهف، حين يسند له دور «عباس أبوالدهب» فى «المرأة المجهولة» لمحمود ذو الفقار 1959.. أمام «الفيديت» التى شكلت معه ثنائيا متوائما فى عشرات الأفلام «شادية».. الحب ليس واردا فى علاقتهما هذه المرة، ولكنها أقرب إلى أن تكون علاقة بين جلاد وضحية. كمال الشناوى يتخلى عن معالم الرقة والشهامة ليغدو نموذجا فريدا لبلطجية القاهرة فى الثلاثينيات، والأهم أنه وشادية، يظهران فى مرحلتين عمريتين مختلفتين. الأولى، فى شرخ الشباب، حيث النضارة والحيوية والانطلاق.. والثانية، على مشارف الشيخوخة، حيث الوهن والنظر الكليل والحركة البطيئة وبياض شعر شادية الذى بدا مجعدا، وتساقط شعر رأس كمال الشناوى الذى لم يبق عنده إلا ما يشبه الخصلة الصغيرة، الملتصقة مع بعضها بعضها، بفعل الصابون.. الفارقة أن الثنائى حقق مستوى رفيعا فى أدائهما حين جسدا مرحلة الكهولة، خاصة أن كمال الشناوى، حافظ على النزعة الإجرامية للشخصية وإن اختلفت مظاهرها، فبعد أن كان لا يتورع عن استخدام قوة بدنه، ويواجه بلا تردد، وينتزع نقود فتيات الليل عنوة، أصبح يعتمد على عقليته الشريرة، يناور ويهدد ويبتز، والواضح أنه وجد فى هذا الدور ما كان يبحث عنه من «انفعالات وتعبيرات إيمائية»، فأخذ يوحى، وهو يتجرع، باستمتاع مدمن عتيد، كأس الخمر الرخيص. إننا بإزاء رجل جبل على الضعة والانحطاط، وفى صوته عبر التليفون، الأقرب إلى الفحيح، يبدو كأنه ثعبان فى زى رجل شديد وشرير وعجوز.

بعيدا عن أدوار «الفتى الأول» المسطحة، يثبت كمال الشناوى جدارة لافتة فى الأدوار المختلفة، خاصة فى أدائه المتفهم، بحكم ثقافته، للشخصيات الشريرة، غير التقليدية، البعيدة عن أنماط المزور أو تاجر المخدرات أو رئيس العصابة، فثمة فى المجتمع من هم أخطر، لأنهم من ذوى الياقات البيضاء، ولعل الصحفى، رءوف علوان، الذى جسده كمال الشناوى بمهارة، فى «اللص والكلاب» لكمال الشيخ 1962، أن يكون من أهم هذه النماذج، والتى ظهرت على نحو متباين، حين أدى دور، يوسف عبدالحميد السويفى، فى «الرجل الذى فقد ظله» لكمال الشيخ 1968.. الواضح أن كمال الشناوى قرأ رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ قراءة متعمقة وخاصة، وأدرك أن «الذكاء» هو سر ومفتاح شخصية رءوف علوان. إنه يعرف قوانين المجتمع، ويرى أعماق تلميذه «سعيد مهران» ــ بأداء شكرى سرحان ــ وبالتالى يتوقع ما سيفعله، ولا تخيب توقعاته، لذا فإن من أقوى مواقف الفيلم، عندما يعود سعيد مهران لسرقة الفيللا فيفاجأ بصاحبها فى انتظاره.. كمال الشناوى، الهادئ، الأوسع خبرة والأعمق دراية، الأذكى، حسب استيعابه الصحيح لرءوف علوان، يبتعد تماما عن أى مغالاة فى الانفعال، بل لا يغضب ولا يعاتب، فقط يطرده بازدراء. على طول الفيلم، يبدو وكأنه يعرف مسار الأمور، ويساهم فيها، بانتهازيته، وغدره، وذكائه. إنه لون من الشر الأنيق الموجود فى الواقع، الجديد، حينذاك على الشاشة.


ذروة

أسلوب كمال الشناوى القائم على الهدوء، والانفعال الداخلى، والتعبير المكثف، المختزل، بالإيماءة، والنظرة، أتاح له الوصول إلى الذروة، فى أدائه لشخصية خالد صفوان. ففى «الكرنك» لعلى بدرخان 1975. إنه هنا، الامتداد الوحشى لرءوف علوان ويوسف عبدالحميد السويفى، وقبلهما عباس أبوالدهب. ولكنه، هذه المرة، رئيس مؤسسة قمع حكومية، وبالتالى أوسع نفوذا، وأكبر قدرة على الإيقاع بالآخرين. إنه يزاول الشر بتصريح من النظام، ويتحاشى كمال الشناوى أن يبدو ساديا، يتلذذ بتعذيب الأبرياء، وفى ذات الوقت، يتجنب الإيحاء بأنه يقوم بعمله مجبرا، كل ما فى الأمر أنه متوافق تماما مع وظيفته، يمارسها ببساطة، كما لو أنها من طبيعة الأشياء. وبهذا الفهم العميق ينظر إلى الضحايا نظرة تكاد تكون ميتة، من دون كراهية أو شفقة. إنه يؤدى عمله، ومثل كل موظف أو مسئول، قد يتكدر حين لا يتحقق النجاح، وقد يشعر بالرضا عندما يتم تحقيق المطلوب.. وبهذا الفهم يتحرك ويتصرف ويعلق، كوزير للداخلية، فى «الإرهاب والكباب» لشريف عرفة 1992، ولكنه، هذه المرة، يجد نفسه فى ورطة، فمجمع التحرير وقع فى يد من يعتقد أنهم عناصر إرهابية، وبانضباط شديد، يعبر كمال الشناوى عن انفعالات محسوبة بدقة، فلا ينسى لحظة أنه «وزير داخلية»، عليه أن يبدو متماسك الأعصاب، يلجم جام غضبه ويكتمه، ويعبر عنه بنظرة استنكار ممتزجة بالحيرة نحو المبنى الضخم الذى يبدو أكبر وأشد رسوخا من الوزير وقواته، وها هو، الشناوى، يتحدث بضيق وربما بشىء من الحسد، عن بقية الوزراء، النائمين فى بيوتهم، بينما عليه أن يعالج أخطاء الجميع.

كمال الشناوى «1921 ــ 2011»، قطع مشوارا طوله يكاد يتجاوز المائتى فيلم، بدأه بدور «الأفندى» المحبوب، اللطيف.. ووصل إلى مسئول أحد أجهزة القمع، قبل أن يصبح ــ على الشاشة ــ وزيرا للداخلية. إنه جزء مضىء من تاريخ السينما المصرية، بينما السينما المصرية هى تاريخه كله.


1947

● «غنى حرب» تأليف أبوالسعود الإبيارى، شارك فى بطولته: ليلى فوزى وبشارة واكيم وإلهام حسين، وإخراج نيازى مصطفى.

1962

● «اللص والكلاب» قصة لنجيب محفوظ، أعد لها المعالجة الدرامية صبرى عزت وكتب الحوار على الزرقانى، وشارك فى بطولته: شادية وشكرى سرحان، وإخراج كمال الشيخ.

1975

● «الكرنك» قصة لنجيب محفوظ، أعد لها السيناريو والحوار ممدوح الليثى، وشارك فى بطولته: سعاد حسنى ونور الشريف، وإخراج على بدر خان.

1992

● «الإرهاب والكباب» تأليف وحيد حامد، وشارك فى بطولته: عادل إمام ويسرا، وإخراج شريف عرفة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات