هستيريا - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 8:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هستيريا

نشر فى : السبت 26 فبراير 2011 - 10:37 ص | آخر تحديث : السبت 26 فبراير 2011 - 10:37 ص

 بدا الديكور غريبا، له طابع غير مألوف، أقرب إلى السيريالية، فالمكان خرب، موحش، مدمر، يوحى أن حريقا اندلع بداخله وأتى على جدرانه والتهم الطلاء فاكتسى كل شىء باللون الرمادى. لاحقا. نكتشف أن هذه البناية المتداعية، أصلا، هى قصر العزيزية الذى دمرته طائرات الجيش الأمريكى فى نوبة من نوبات الوحشية المقيتة..

من وراء نافذة منزوعة الأخشاب والزجاج، يطل «الأخ القائد»، بطلعة كئيبة معتمة، ليلقى خطابه التاريخى. اختار العقيد هذا الموقع ليذكِّر الآخرين بأنه كان هدفا للإمبريالية الغاشمة، لكنه نسى أن الناس تتذكر كيف قدم معداته النووية، كاملة، لأمريكا، قربانا، كى ترضى عنه.

وما إن بدأ الزعيم كلامه، المتمشى تماما مع المكان الكابوسى، حتى أدرك كل من يتابعه أن ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب قد مسه جنون واضح، لا يتجلى فى انفجاراته الانفعالية المتقلبة وحسب، بل فى تلك الجحافل، المتضاربة التوجهات، التى لا وجود لها إلا فى خياله المضطرب، والتى يؤنبها تارة، ويهادنها تارة، يهددها مرة، ويأمرها مرة.

فى ذلك الخطاب، قدم القذافى أداء خلابا، فاتنا، عفويا وصادقا، لحالة هذيان فريدة، تعتبر درسا ثمينا فى مهارة وقوة الأداء، بالنسبة لعشاق التمثيل، خاصة أن الخطاب جاء مرتجلا، وبالتالى انفتحت أبواب الهستيريا عند رجل اتسعت وتعمقت المسافة بين فكرته عن نفسه من ناحية، وواقعه الحقيقى من ناحية أخرى، فالطاغية، الذى قبع على دست الحكم أكثر من أربعة عقود، وجد نفسه، على حين غرة، فى مركز إعصار سيطيح به بعيدا. لم يكن يسمع إلا صيحات الولاء وتهليل التبجيل، والآن يرى جماهير ثائرة تهتف بسقوطه.

طوال الخطاب، ضم القذافى أصابع يده اليمنى، ولم يتوقف عن التلويح بقبضته والضرب بها على منضدة أمامه، بما يعنى الإعلان عن مزيج من القوة والغضب والتمسك بالسلطة. وعلى الرغم من ملامح وجه «الزعيم» الجامدة أصلا، فإن نظرة عينيه تزوغ للحظة، وفيما يبدو يتراءى له مشهد المجاميع المتدفقة فى الشوارع والميادين فيجأر مخاطبا «من أنتم.. من أين جئتم». وحين يتذكر المناطق التى خرجت عن سيطرته يوجه كلماته لسكانها قائلا «هذه آخرتها.. هذه آخرتها يا بنى غازى»..

وفجأة، تنتابه موجة من جنون العظمة فيعلن، ببساطة مدهشة «أنا مجد لا تفرط فيه ليبيا»، ويمتد التورم الذاتى ليشمل ليبيا التى يقول عنها إنها «تقود أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية». وبعيدا عن القاموس اللغوى المتدنى الذى يصف فيه الثوار بالقطط والفئران، وكل من يستمع أو يتابع الإذاعات والقنوات الفضائية بالكلاب.

يتسم الخطاب، إجمالا، بتفكك الأفكار، والعجز عن إدراك الواقع، وانعدام القدرة على ضبط الانفعالات، وها هو، فى النهاية، يرى فى خياله طوابير جيوشه فيخاطبهم، كما لو أنه أحد القياصرة «إلى الأمام.. ثورة.. ثورة». ويدق بقبضته دقة أخيرة على المنضدة ويغادر.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات