البحث عن (على) - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 5:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البحث عن (على)

نشر فى : الأربعاء 23 نوفمبر 2011 - 9:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 23 نوفمبر 2011 - 9:45 ص

بعد عامين من مجزرة أوليمبياد ميونخ 1972، ومع ارتفاع موجة الكراهية الأوروبية للعرب، حقق المخرج الألمانى راينر فاسبندر فيلما ذائع الصيت، ينتقد فيه، بشجاعة، مشاعر الشك والحنق عند الغرب تجاه العرب. عنوان الفيلم بالألمانية «الخوف يأكل الروح»، وبالفرنسية، الأوسع انتشارا، هو «كل الآخرين اسمهم على». أسند البطولة لممثل أسود، قادم من المغرب، اسمه الهادى بن سالم، الذى أصبح مرموقا، مشاركا بالتمثيل فى أعمال تالية، لكن حياته الشخصية، شأنه فى هذا شأن مخرجه الأثير، اتخذت مسارا عاصفا، انتهت بوفاته فى أحد سجون فرنسا عام 1976، قبل أن يتم الأربعين من عمره، بينما توفى فاسبندر، إثر تعاطى جرعة كبيرة من الكوكايين، عام 1982، وهو فى السادسة والثلاثين من عمره.

 

فيولا شفيق، الباحثة السينمائية الجادة، المتمتعة بثقافة ألمانية شاملة وعميقة، أخرجت فيلما تسجيليا طويلا، مهما وبديعا، أثار مناقشات خصبة، ليلة عرضه فى «مهرجان الفيلم العربى ببرلين».

 

عنوان الفيلم بالألمانية «جنة على»، ولكن بالفرنسية «اسمى ليس على». وسواء اعتمدت العنوان الألمانى أو الفرنسى، فإن لكل عنوان دلالته، تعطى للعمل معنى يعمق الآخر.. الفيلم، أقرب للتحقيق الموسع تتابعه فيولا، بدأب ودقة، بهدف معرفة مسار ومصير حياة الهادى بن سالم، الشهير باسم «على»، وهى فى سبيل إنجاز هدفها، تلتقى العديد من الشخصيات ذات الصلة ببطلها، وتترك لهم حرية الكلام، وتجعلنا لاحقا، نتبين عندهم مناطق الصدق والكذب، وتكشف، بهدوء ورصانة، ومن دون انفعال أو افتعال، نزعات الكراهية المقيتة، التى لا تزال كامنة فى بعض القلوب.. أحد الذين عملوا مع فاسبندر، يتحدث بوجه يشوبه الكدر، عن «الهادى»، حين دخل مع مخرجه من باب الحانة، فرآه يمشى بكعب حذاء عالٍ، مشية عجيبة غريبة، وذراعين طويلتين، تماما مثل النسناس، وفى ذلة لسان، يعرب الرجل، بمرارة، عن كون «الهادى» كان سببا فى إبعاده عن العمل مع فاسبندر.. وثمة من يصف «الهادى» بأنه جاهل، وابن الصحراء. لا علاقة له بالحضارة أو الثقافة. وبذكاء، تترك له المخرجة فرصة الاسترسال فى كلامه المشحون بالأكاذيب، خاصة حين يتحدث عن قذارة اثنين من أطفال «الهادى»، تولى المتحدث إحضارهم من بلدتهم، وقام بتحميمهم فى بانيو بحمام حجرة بالفندق، مرة تلو الأخرى، وفى كل مرة، تصبح المياه.. سوداء.

 

لا تترك المخرجة وسيلة من وسائل الكشف عن حقيقة بطلها إلا واتبعتها، فإلى جانب شهادة من عرفوه، ثمة الصور الفوتوغرافية، ترصد مراحل حياته، ومقاطع من أفلام، تستخدمها استخداما موفقا، فحين يبدو «الهادى» وكأنه يمر بنوبة شعور بالذنب، تطالعنا لقطته، وهو يصفع وجهه عدة صفعات، عقب خسارته فى لعب القمار، فى «الخوف يأكل الروح».. وتنتقل فيولا شفيق، بين ألمانيا وفرنسا وتونس، لتتعقب حياة «الهادى» العاصفة. وفى بلدته الصغيرة، المنسية، فى تونس، تلتقى بزوجته التى غدت عجوزا، دافئة الملامح، تذكرنا بطيبة أمهاتنا، ابتسامتها مشرقة، وأحزانها بلا حدود، لا تغفر لـ«الهادى»، يوم انتزع منها اثنين من أولادها، كى يعيشا معه فى الخارج.. إنها تتحدث، بصدق وحرارة، وكان ما حدث منذ سنوات طويلة، قد حدث حالا، وها هى تجهش بالبكاء وتقول ثلاث كلمات «لقد حرق قلبى».

 

«اسمى ليس على»، أو «جنة على»، لا يأخذ جانب التعاطف المطلق مع «الهادى»، ولا يدينه إدانة مطلقة، فالفيلم أقرب لبهو المرايا، نرى انعكاس صورة شاب ذهب للغرب، عاش سنوات بدت كالجنة التى تحجب جحيما من نوع ما. وأصبح اسمه على ولكنه ليس «على»، والفيلم فى شموله، لا يتوقف عند «الهادى» وحسب، بل تمتد رؤيته وتنفذ إلى فاسبندر، الغائب الحاضر، وإلى ملابسات سنوات، يهيمن عليها ظلال التعصب، ويصل إلى أغوار نفوس، لا تزال جرثومة الفاشية، تعتمل بداخلها. إنه فيلم كبير.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات