قدرات داود.. غير عادية - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 7:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قدرات داود.. غير عادية

نشر فى : الجمعة 18 ديسمبر 2015 - 10:35 م | آخر تحديث : الجمعة 18 ديسمبر 2015 - 10:35 م
ما الدنيا إلا سيرك صغير، هذا ما قد يراه المتابع، إلى جانب جوانب أخرى، تفتح أبواب أسئلة، وتأملات، وبالضرورة، تحمل معها قدرا كبيرا من الحيرة، تؤدى إلى تفسيرات، بالغة الثراء، ربما لن تجدها، فى سينمانا المصرية، إلا عند داود عبدالسيد.
السيرك، ذلك العالم المبهج، الدافق بالحيوية، الذى يضم ذوى المهارات الخاصة، لاعبى الأكروبات، المهرجين، المدربين، عازفى الموسيقى النحاسية، ولأن سيرك داود متواضع، على باب الله، فإنه يشتمل على أسد واحد، لابد أن يأكل لحما، لذا يلقى الحمار مصرعه، برصاصة، كى يغدو طعاما لملك الغابة الأسير.
موكب السيرك يطالعنا، فى مشهده الأول، قادما من عمق المجال، يسير بجوار البحر، معلنا عن نفسه، يركض حوله، ووراءه، صبية وشباب، ومن النوافذ، فى بيوت صغيرة، تطل رءوس نساء وبنات، لكن رجالهم، أصحاب الذقون، يجذبونهن للداخل، خوفا عليهن من الفتنة.
صاحب السيرك «جبريل» ــ خذ بالك من اسمه ــ يدعو أبطال الفيلم لحضور العرض، أثناء أداء فقرة اللعب السريع بالكور والعصى القصيرة، تنظر الطفلة «فريدة»، بتركيز، إلى أدوات اللعب فتظل معلقة فى الفضاء. الذهول يعم الجميع.. هل أراد داود القول أن ثمة دائما، قدرة غير عادية، تتفوق على المهارات، وحتى أصحاب القدرات الكبيرة، من الممكن، فى لحظة، أن تذهب قدراتهم سدى، وهو الأمر الذى يؤكده مشهد رحيل السيرك مطرودا، بناء على موقف ظالم، من السلطة وأصحاب اللحى، حيث نرى الغلمان يرشقون عربة الأسد بالطوب، فينزوى مذعورا، بينما تخفت الموسيقى النحاسية، ويهرب العافزون مع أفراد الموكب، لا تسعفهم مهاراتهم.
المشاهد القليلة للسيرك، تصب فى نهر الفيلم الذى تجسده تجربة بطله، يحيى ــ خالد أبوالنجا، الذى يجد نفسه فى زرض جديدة، تذكرنا بمتاهة نور الشريف فى «البحث عن سيد مرزوق»، ورحلة أحمد زكى المتخبطة داخل العالم السفلى لتجارة المخدرات فى «أرض الخوف»، وعناء آسر ياسين، الذى يضنيه البحث عن الحقائق فى «رسائل بحر».
فى هذه المرة، يجرى تكليف الدكتور يحيى، الهادئ، المتوازن نفسيا، العاقل، بالبحث عن أصحاب القدرات غير العادية، لحساب جهة ما، قد تكن علمية، وربما أجنبية، وعلى الأرجح أمنية، حسب ما سيظهر لاحقا.. الغموض، انعدام اليقين، المسائل المعلقة، كلها، من ألاعيب داود عبدالسيد الخلابة، فغالبا، عنده ما يخفيه، أو هو نفسه لا يعرفه، فمثلا، يقود «جبريل» مسيرة لأعضاء السيرك، نحو بيت الطفلة «فريدة» عقب ظهور قدراتها أثناء العرض.. «فريدة»، تتجلى، فى شرفتها، ملفعة بالضياء، أقرب للملاك.. هل هذا المشهد الليلى الأخاذ واقعى، أم مجرد خيال؟ داود، المحنك يجعله معلقا.
الطبيب «يحيى»، يصل إلى منطقة قريبة من الإسكندرية، معزولة، ينزل فى «بنسيون» تملكه وتديره «حياة»، وهى فعلا مثل الحياة، فاتنة، عزيزة وغالية، متقلبة، بسيطة، مليئة بالأحاجى والأسرار وما اسمها إلا جزءا من لعبة داود مع الأسماء، وإيحاءاتها ــ تجسد شخصيتها. على نحو بديع، نجلاء بدر، التى أضفى عليها داود ذلك البهاء الذى يغدقه، عادة، على بطلاته، من «يسرا»، فى «الصعاليك»، «لوسى» فى «سارة الفرح» و«البحث عن..»، «هند صبرى» فى «مواطن ومخبر وحوامى»، إلى «بسمة» و«مى كساب» فى «رسائل بحر».
فى البنسيون أربعة نزلاء، وخادم، اسمه حبيب الله «إيهاب أيوب».. لكل نزيل مزاجه الخاص، اهتماماته، انتماءاته، قدراته. أحدهم، مغنى أوبرا «حسن كامى»، والثانى رسام «أحمد كمال» الثالث منشد دينى «محمود الجندى». الرابع، إيطالى الجنسية، يجرى بحثا عن غانيات الثغر السكندرى.. الأربعة، برغم المماحكات التى تندلع بينهم، يعيشون فى وئام، متلفعين بدفء «حياة»، داخل ذلك المكان العذب، بأثاثه الرقيق، وألوانه المطمئنة، طبعا، بلمسات فنان الديكور، العارف بأصول فنه، المتفهم لرؤية المخرج، الذى عمل معه طويلاً: أنسى أبوسيف.
علاقة رقيقة، تربط بين «يحيى» و«فريدة»، ابنة حياة، الطفلة المفعمة بالحيوية، التى ورثت عن والدتها ما يشبه القدرات غير العادية، ولكن مشكوك فيها، حتى إن قدراتها فى تحريك تفاحة تظل موزعة بينها و«يحيى» من ناحية، وبينهما والصدفة من ناحية ثانية.
علاقة أخرى، حميمة ودافئة، تنشأ بين «يحيى» و«حياة»، لكن، كل شىء يتغير بظهور رجل الأمن الغامض، «عمر البنهاوى» ــ عباس أبوالحسن ــ الذى يدرك قدرات الطفلة. يستعلها فى استجواب متهمين، بل يتزوج من «حياة».. لكن هيهات أن يمتلكها.. هنا، نكاد نقرأ: الحياة، لن يمتلكها أيا من كانت سلطته. إنها أكبر من الجميع.. لذا، فهى تلفظه، كما لفظت من قبله، زوجا أراد الهيمنة عليها، بأفكاره الميتة، التى تكره الفن، ويعتبره حراما، بل يرى فى ابنته، إنها ابنة الشيطان.
«قدرات غير عادية»، يحلق بنا إلى آفاق بعيدة، يستدرجنا بنعومة، فى أجوائه الرحبة، أمام طبيعة بالغة الثراء، مدعيا أنه يبحث فى القدرات غير العادية، وهى، كما يوحى ويؤكد، أنها متوافرة عند الجميع، ولكنها عصية على من عميق قلوبهم عن رؤية الجمال، والرافضين للفن، ومن يرتمون فى جحيم الكراهية ورفض الآخر.. ويقينا، بعودة السيرك إلى موقعه بنهاية الفيلم المتأمل، يعنى أن الحياة باقية، تستحق أن تعاش.
كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات