فئران.. وجثث هائمة - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 6:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فئران.. وجثث هائمة

نشر فى : السبت 17 نوفمبر 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 17 نوفمبر 2012 - 9:00 ص

أحيانا، يتجاوز مشهد واحد، بقيمته، وعمق تأثيره، الفيلم كله.. وبالتالى، يتحرر من السياق الذى وضع فيه، ويصبح، فى الذاكرة، مفردة مستقلة بنفسها، قد يزداد ألقها مع الأيام، خاصة إذا كان المشهد يعبر، على نحو ما، عما يحدث فى الواقع، والحاضر.. هذه الحالة يعرفها عشاق السينما، وتمتد للمغرمين بالمسرح، والموسيقى، وبقية الفنون.

 

هذا الكلام بمناسبة ذلك المشهد الغرائبى، المذهل، فى فيلم «نوسفيراتو» الذى حققه المخرج الألمانى فيرنر هيرتزوج عام 1978، معتمدا على رواية «دراكيولا» التى كتبها الأيرلندى برام ستوكر 1897، وتعد من عيون أدب الرعب.. ومنذ حوالها الألمانى مورناو إلى فيلم عام 1920، صامت بالأبيض والأسود، والسينما لم تتوقف عن تقديمها، فمن الواضح أن حكاية مصاص الدماء، الميت الحى، المثير للذعر، جذبت بغوايتها، مخرجين فى قامة البولندى الأصل رومان بولانسكى، والأمريكى كوبولا، وامتد ظلها إلى مصر ليظهر فى «أنياب» الذى أخرجه محمد شبل 1981.

 

«نوفسيراتو» هيرتزوج فيلم تعبيرى، بكل مواصفات المدرسة التعبيرية، فهو يصوغ رؤيته بطريقة إيحائية ويقدم مشاهده مغلفة بأجواء الأحلام والظلال والتشتت والكوابيس والضياع.

 

شخصياته تبدو شبحية، لا معالم واقعية لها، فالمكياج الكثيف للوجوه يجعلها أقرب إلى الأقنعة أو الرموز منها إلى الكائنات البشرية، ويعتمد الفيلم على مجموعة فريدة من الألوان، يستخدمها بجرأة أو بذوق بالغ الخصوصية، تبلغ حد تلوين السماء باللون الأخضر، والخفاش الطائر باللون الأصفر، ورمال الشاطئ باللون الأبيض.. وبعيدا عن تتبع أسلوب هيرتزوج الخلاب، شديد الخصوصية، يمكن إجمال أحداث الفيلم، غير الواقعية طبعا، فى ذلك الزوج الذى يوافق على بيع بيته للكونت «دراكيولا» الذى يسكن فى قلعة بعيدة، ويريد الحضورر للمدينة.. أثناء انتقال «دراكيولا»: بصناديقه السوداء الغامضة، عن طريق البحر، يموت بحارة السفينة جميعا.. تدرك «لوسى»، زوجة بائع البيت أن الشر سيفرد جناحيه على المدينة.. حالتها الصحية تتدهور، تحاول تنبيه من حولها أن الأخطار تحدث بهم جميعا، لكن لا أحد يكترث لما تقوله، خاصة بعد اطلاعها على كتاب «الجثث الهائمة».. تخرج من البيت، حيث نعيش معها ذلك المشهد الطويل، المفزع، الذى لا يبهت فى الذاكرة:

 

المدينة قذرة، أكوام القمامة فى الشوارع، وثمة بعض الفئران، حاملة الطاعون، تجرى هنا وهناك، وكلما اقتربت «لوسى» العليلة، من ساحة المدينة، أو ميدانها الكبير، يزداد عدد الفئران، وتحاول المرأة تنبيه الناس، لكنهم لاهون عنها، لا ينتبهون لجحافل الفئران التى تتدفق على المكان، وتتكاثر، وتصعد فوق موائد الطعام، وتلتهمه، وتهيمن على كل شىء، بينما بقايا السكان فيما يشبه الغيبوبة أو الجثث الهائمة.

 

 يكتسب هذا المشهد الكابوسى حضورا، حتى بعد مشاهدته بعدة عقود، ففيما يبدو أن فئران الطاعون التى تسللت إلى سيناء، فى غيبة منا، أعادته بقوة للذاكرة، ولعل الجثث الهائمة، المتدفقة على ميدان المدينة، بأعلامها السوداء، التى لا علاقة لها بالوطن، تعمق معناه، وتؤكد صدقه، وأنه ليس مجرد أضغاث كوابيس.. فانتبهوا، قبل فوات الأوان.

 

 

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات