غدار في عش النقار - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 4:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غدار في عش النقار

نشر فى : الخميس 16 مايو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 16 مايو 2013 - 8:00 ص

الفيديو التقطه بالصدفة سياح كانوا يبحرون فى أحد روافد نهر الأمازون المُحاصَرة بأشجار ونباتات الغابة الاستوائية فى البرازيل، وفيما كانت عدسات كاميراتهم مصوبة نحو جذع شجرة عتيقة يتعلق بها طائر ملون يتأهب لدخول عشه المحفور فى الجذع، فوجئوا بثعبان ضخم ينطلق برأسه وبعض جسمه من داخل العش، لتدور بين الطائر والثعبان معركة مخيفة، فيما أخذ السياح يتصارخون بخليط من الاستثارة والفزع «أووه، أووو، ياربى، توقف، لا تحرك القارب، لا تحرك القارب». كانوا يدركون أنهم يلتقطون مشهدا نادرا، وهو بالفعل نادر، لكن نعمة الانترنت جعلته شائعا، بل أشهر مشهد لتراجيديا الصراع فى الغابة بين الطيور والأفاعى. وقد رأيته أكثر المشاهد إحالة، إلى ما حدث ويحدث لثورة يناير لدينا!

 

 الطائر فى الفيديو يُسمَّى «نقار الخشب المُقَنْزَع « PILEATED WOODPICKER، لأن رأسه متوج بقنزعة حمراء، أى عرف من الريش مائل إلى الخلف، وهو يماثل فى الحجم ببغاءً كبيرا ولا يقل تلوينا عنه، ويتسلح بمنقار كرأس حربة، صلب للغاية وإن كان شديد الخفة، إضافة لمخالب حادة تطل من أصابع قوية، وذيل متين وصلب. هذه كلها أدوات عمله، وهبات تهيئته ليشق طريقه فى حياة الغابة، فهو يتعلق بجذوع الأشجار بطريقة عبقرية تشبه طريقة طالع النخل لدينا، لكن بدلا من الأنشوطة التى تطوق جذع طالع النخل، ينشب المُقنْزع مخالبه فى جذع الشجرة، فيما يتكئ على ذيله المرشوق فى الجذع، ويوالى ضرب لحاء الشجرة التى يتعلق بها بمنقاره، فيغوص المنقار فى اللحاء مستخرجا اليرقات والحشرات المختبئة فيه، ليؤمِّن غذاءه التقليدى، وإن كان عند الضرورة ينوع طعامه من ثمار وبذور الأشجار من حوله.

 

  أكثر من ذلك، وأهم ربما، أن هذا الطائر يستخدم الطريقة نفسها، فى تكوين عشه غير التقليدى مقارنة ببقية الطيور، فهو يحفر بضربات منقاره بيتا حقيقيا فى عمق الجذع، يُندِّيه النسغ الذى يرشح من لُب الشجرة، ويشكل شرابا سائغا ومغذيا له ولأسرته المستقبلية، فكأنه بهذا البيت يضمن كفاية المأوى وكفاف الزاد، إضافة للحماية المؤكدة فى موسم الأمطار الاستوائية الكاسحة، ولهذا يبذل الطائر جهدا خارقا وحاذقا لحفر هذا العش، يستغرق أياما من التعلق والنقر المتواصل، ودون أن يتناول أى طعام تقريبا فى هذه الفترة!

 

 القاعدة أن هذا الطائر يصنع بدوام وجوده قرب عشه، كما بصيحاته الجهيرة الشهيرة «كواك كواك كواك»، نطاقا لا يتجاوزه الغرماء، وعندما يقترن بأنثى تُساكنه، يتناوبان الإقامة فى العش، حتى لا يخلو لحظة، وعند الرقاد على البيض يتكرر هذا التناوب مما يجعل النقار من ذكور الطيور القليلة التى تشارك الأنثى فى احتضان المستقبل ! فكيف وصل الثعبان إلى عش هذا الطائر واحتله؟ وهل التهم بيضا أو أفراخا كانت فيه؟!

 

   برغم أن الفيديو ليس عالى الوضوح، إلا أنه يكشف عن أن الغادر من نوع «الثعابين النفاخة صفراء البطون سارقة البيض»، وهى أفاعى قادرة وفاجرة، ومع ذلك واجه النقارُ الغدارَ بروح انتحارية، غير عابئ بالشدق الفاغر المخيف منتفخ الأوداج ولا الأنياب السامة، بينما لا سلاح لديه سوى منقاره الذى يقتات به ويحفر به عشه، يُباغِت الطائرُ الثعبانَ بالهجوم والنقر، يلتف الثعبان ويمسكه لحظة، لكنه لا يستسلم، بل ينقر ويضرب بأجنحته ويخفق، يفلت فلا يهرب، بل يعاود الهجوم، حتى عندما نجح الثعبان فى انتزاع شىء من ريشه وربما قطعة من جلده، لم يتوقف عن تكرار الهجوم والصياح، وكأنه فى كل هجمة يصرخ «اترك بيتى. اترك بيتى». فهل فى بيت ثورة يناير الآن مثل هذا الثعبان؟

 

   نعم، وحتى أكون واضحا، فإن هذا الثعبان الذى تسلل إلى بيت ثورة يناير ليس طيفا سياسيا معينا كما يمكن أن يتوارد إلى الخواطر المُستقطَبة من هذا الجانب أو نقيضه، لأننى على قناعة أن أصحاب هذا البيت، الذين حفروه بأرواحهم واستبسالهم فى ميادين الثورة، لم يكونوا من طيف واحد، بل من عموم المصريين، خاصة الشباب غير المُسيَّس، وشباب الليبراليين واليساريين والإخوان والسلفيين وغيرهم، مسلمين ومسيحيين، جمع بينهم التطلع لبناء بيت وطنى جديد مشترك، متطهر من الاستبداد والفساد وجدير بالمستقبل، وكان روح الشباب هو الذى وحد بينهم وجعلهم القاطرة التى شدت فى اندفاعها التاريخى المذهل عموم المصريين، كما الجيش الوطنى.

 

   وبقدر ما كانت البراءة الروحية والسياسية هى الضوء الباهر الذى تألق فى سماء هذه الثورة، بقدر ما شكلت الثغرة التى تسلل منها الثعبان الغادر ليحتل أرضها التى خلت له لحظة، ويدفع إليها بأدواته ممن تورطوا فى التماهى مع مخططاته التى تستخدم الصفقات والضغوط والوعود، لتفرض نفسها على واقع مرتبك، بما يلائم مصالحها التى على رأسها أمن إسرائيل فى محيط عربى لابد من تمزيقه وتشتيته وإنهاك قواه، بما يحقق سيناريو الفرقة والتفتيت الذى اقترحه المُنظِّر اليمينى الصهيونى برنارد لويس عام 1980 بتكليف من البنتاجون وبمباركة بريجينسكى مستشار الأمن القومى على عهد جيمى كارتر، القديس، مفتى النزاهة الانتخابية فى الديار المصرية! ومن بعده «المحافظون الجدد»، وفى أعقابهم الإدارة الأمريكية «العميقة» العابرة للديموقراطيين والجمهوريين على السواء!

 

   مخطط برنارد لويس لم يجد أفضل من إزكاء الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية، والعرقية إن وُجِدت، لتمزيق خرائط سايكس بيكو القديمة ورسم خرائط جديدة تُكرِّس لتفتيت أشد، وكان التصور المبدئى فى ذلك المخطط أن يكون مرسوما بحدود جغرافية جديدة لدويلات وجيوب طائفية ومذهبية وعرقية تستهلك طاقة الشعوب فى حروب بينية لا تخمد، لكن يبدو أن ملابسات سخرية التاريخ، قدمت لهذا المخطط منحة شيطانية لتحقيق هذا التفتيت حتى لو بقت الحدود القديمة على حالها، فليكن الاحتراب داخليا فى إطار «الدولة» الواحدة، مادام ذلك سيحقق أن تأكل مجتمعات هذه المنطقة نفسها بنفسها، بل هذا أأمن وأضمن من كيانات سقطت فيها «الدولة» كما الصومال، فتحولت إلى قاعدة قطاع طرق بحرية وبؤرة تجميع وتفريخ لقنابل التطرف البشرى العابر للقارات، ومصدر قلق « دولى « ! فما بالنا ببقعة فى قلبها إسرائيل.

 

 اللعبة كبيرة وخطيرة، وبعض من يتحركون على رقعتها من بيننا يظنون أنهم فائزون، بينما هم بيادق بين أصابع شيطان أكبر لايدعمهم، بل يدعم سيناريوهاته السوداء لتوريط أبناء هذه المنطقة فى مستنقع من الصراعات الداخلية الدموية، أو على الأقل المُستنفِدة لقواهم، بما لا يسمح لهم بالخروج أبدا إلى أرض السواء، ليبنوا ويزرعوا ويصنعوا ويقووا على غاصبيهم. وعندما يتصور البعض أنه «يلعب» سياسة، بتكتيكات القبول المرحلى بالإملاءات الصهيو أمريكية مقابل تمكينه من إقامة دولة حلمه الأرضية السماوية، عليه أن يدرك كم هو واهم وملعوب به، وأن حلم دولته الأرضية السماوية، لن تراه أفاعى مخططات التفتيت والتوهين إلا خطرا مستقبليا يهدد مصالحها وأمن ربيبتها فى المنطقة، ولو بعد حين، ولن تسمح بقدوم هذا الحين!

 

   فى الفيديو الذى مدته ثلاث دقائق وخمس وخمسون ثانية، لم تتضح نهاية حاسمة للمعركة بين الغدار والنقار، لكن أشد ما يلفت البصر والبصيرة فى الأمر، هو هذه البسالة التى دافع بها الطائر عن عشه، بيت أفراخه، ومستقبل استمرار نوعه فى هذه الغابة. ما أجمله.

 

•••

 

أرجو أن تشاهدوا الفيديو على الرابط :

 

http://www.youtube.com/watch?v=ipdiai7or_o

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .