عمار الشريعى - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 8:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عمار الشريعى

نشر فى : الأربعاء 12 ديسمبر 2012 - 8:50 ص | آخر تحديث : الأربعاء 12 ديسمبر 2012 - 8:50 ص

«الموجة بتجرى ورا الموجة عايزه تطولها».. هذه الشطرة من «فاكر لما كنت جنبى» ترددها أم كلثوم، عدة مرات، قد تبدو متشابهة، ولكنها، عند عمار الشريعى متباينة ومختلفة. فى كل مرة، ترسم، بأدائها البديع، صورة لا علاقة لها بما سبق وما لحق: ثمة موجة متمهلة، تكاد تنتظر، بدلال، الموجة التالية، وتلك موجة صاخبة، عالية، تحاول الهرب من الموجة التى تطاردها.. وثالثة غاضبة، تقرر البعاد عن الموجة التى تحاول استرضاءها.. هكذا تتوالى تحليلات الذواقة، عمار الشريعى، لتنويعات هذه الكلمات القليلة، فتجعلنا نرى الأغنية بعيوننا، ولا نسمعها بالآذان فقط.

 

فى برامجه الإذاعية، يأخذك عمار، برهافة، على الأثير، إلى مناطق سمعية خلابة، تعايشها بانتشاء، سواء كنت تعرفها أو لا تعرفها، وهو فى هذا لا يعد ناقدا بالمعنى المألوف، يبين العيوب والمزايا، ولكنه فعلا «غواص فى بحر النغم»، يتوغل فى الأعماق ليستخلص اللآلئ والدرر، ويبين، بأسلوبه البسيط، الدقيق، النابع من قلبه، وعقله، مناطق الجمال فيما يختاره، فضلا على قيمته الروحية، فمثلا، فى إحدى حلقاته، يسلط أضواءه على نشيد «اسلمى يا مصر» الذى كتبه مصطفى صادق الرافعى ولحنه صفر على ــ والذى ظل النشيد الوطنى لمصر من «1923 إلى 1936» ــ فيتوقف متأملا، معجبا وخاشعا، التزاوج الحميم، بين الكلمات واللحن، فى «لك يا مصر السلامة وسلاما يا بلادى.. إن رمى الدهر سهامه أتقيها بفؤادى».. والواضح أن «الفداء» فى سبيل الوطن، من القيم المقدسة عند عمار، ذلك أنه، بعبارات تقطر دفئا وتوقيرا، يتحدث عن «نشيد الحرية» الذى كتبه كامل الشناوى ولحنه محمد عبدالوهاب، ويبدى، هيامه بجملة «أنا يا مصر فداكى.. بدمى أحمى حماكى»، فإلى جانب اليقين الواضح فى اللحن، ثمة تناغم الحروف بين «فداكى وحماكى»، ويلفت عمار نظرنا إلى أن صوت المغنى الفردى، يعقبه مباشرة الصوت الجماعى الذى يردد كلمة واحدة، هى «أنا، أنا، أنا».. تأكيدا على روح الفداء عند المصريين.

 

عمار الشريعى، المستوعب لتراث الموسيقى الشرقية، المصرية، العارف بإنجازات طابور أساطينها، دعمت موهبته الكبيرة، المتوافرة أصلا، وبالتالى انطلقت إبداعاته، فى العديد من المسارات، ربما جاء أكثرها إثارة للانتباه، ما أنجزه فى مجال مقدمات المسلسلات التليفزيونية، على نحو جعل منها مدرسة فى قدرتها على تحقيق عدة أهداف فى آن، فهى تمهد المتابع، نفسانيا، لما سيراه، فضلا على قدرتها التعبيرية عن أجواء المكان والزمان اللذين ستدور فيهما الأحداث، بالإضافة لتمتعها بجماليات خاصة تجعل منها مقطوعات فريدة، مستقلة فى حد ذاتها.

 

فى مقدمة «رأفت الهجان»، تجسد الموسيقى روح ذلك الشاب الذى عاش حياته على حافة الخطر، عاملا فى قلب إسرائيل، من أجل وطنه مصر. المقطوعة تبدأ بداية قوية، حادة، مثل السهم النافذ، المنطلق بسرعة نحو هدف، وعمار فى هذا يعتمد على النغمات الرفيعة لآلات الكمان، ثم تدخل آلات أخرى، بنغمات تتقاطع وتتسابق، كما لو أنها فى صراع متلاحق، متصاعد، لا يخلو من مطاردة ومواجهة، ووسط أجواء توتر تشيعها ألحان متداخلة، تقتحم بعضا بعضها، يعود السهم الحاد، ليسيطر من جديد.. هنا، تتحول المقطوعة إلى جزء من الذاكرة السمعية عند المتابعين ما إن تتدفق، بسخونتها، حتى يتراءى للمرء أحداث المسلسل.

 

فى الكثير من مقدماته، استفاد عمار من الصوت البشرى، مبتعدا تماما عن التطريب، أو استعراض جمال الصوت، فالهدف عنده، إبراز المغزى العميق للعمل، والتعبير عن روحه، وتكثيف الإحساس به، وغالبا، تكون الكلمات المضيئة بالمعانى، للشاعر المصرى حتى النخاع، سيد حجاب.. وآية ذلك ما تجده فى مقدمة «الأيام» الذى يروى قصة حياة جدنا العظيم، طه حسين.. والملفت أن هذه الأغنية تتجاوز التعبير عن قوة وعزيمة طفل ضرير، استطاع دحر الظلام، إلى رؤية للحياة، بمرها وحلوها، بهزائمها وانتصاراتها.. المقدمة تبدأ موحشة، كما لو أنها آتية من ليل الصعيد الحالك، يقطعها وتر عود أو جيتار، ولكنها تستمر، ثقيلة، جاثمة على الآذان، إلى أن يتسلل صوت على الحجار، على استحياء، يشوبه الوهن، مغنيا «أيام ورا أيام ورا أيام»، مع مدات تؤكد تواليها، ثم ينهض صوته قليلا «لا الجرح يهدى ولا الرجا بينام».. وتتواصل الأغنية مترعة بالألم تارة، والأمل تارة، إلى أن تقترب من النهاية، فتتكرر كلمة «أيام»، أكثر من عشر مرات، يتبادلها المعنى، مع كورس، يتعمد عمار أن يكون كله بأصوات نسائية، تعطى إحساسا شفافا بالخصب والنور الذى يأتى، حتما، بعد العتمة.

 

عمار الشريعى، وريث تراثنا الثمين، ترك لنا ثروة أغنى مما ورثه، ليتنا نحافظ عليها، ونحميها من غربان لا  تطيق سماع الموسيقى، حتى لو كانت من أعذب الألحان.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات