آمال كبيرة.. فى «الخروج للنهار» - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 8:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آمال كبيرة.. فى «الخروج للنهار»

نشر فى : السبت 10 مايو 2014 - 8:15 ص | آخر تحديث : السبت 10 مايو 2014 - 8:15 ص

هذا الفيلم المتميز، لا ينتمى إلا لمبدعته، هالة لطفى، بأسلوبها الخاص، الذى يسرى فى شرايين العمل كله، من أول لقطة حتى النهاية، فهنا، من الصعب أن تتحدث عن التصوير أو الديكور أو المونتاج أو التمثيل، كوحدات منفصلة، ذلك أنها، جميعا، تنصهر فى بوتقة الفيلم، ليقدم حالة، عامة وخاصة، بتوقيع المخرجة، كاتبة السيناريو، المنتجة.

«الخروج للنهار» يقبل التحدى بقدرته على الالتزام بوحدات الزمان والمكان والأحداث والشخصيات، فضلا عن أجوائه، ذات الطابع الرمادى، لونا وروحا وإضاءة، فيبدو كما لو أنه آهة طويلة، صادقة، نابعة من القلب، فيها من الجلد والصمود، بقد ما فيها من ضيق وعناء.

يستغرق الفيلم دورة شمية واحدة، يبدأ فى الصباح مع فجر اليوم التالى.. فى المشهد الافتتاحى تستيقظ الشابة سعاد، بأداء موهوبة اسمها «دينا ماهر»، مصرية تماما، بعيدة عن المواصفات الشكلية لنجمات يقمن من الفراش بمكياجهن كاملا. إنها، مثل بناتنا، تنهض منكوشة الشعر، متكاسلة فى البداية، تتجه لسرير والدها المريض، الغائب عن الوعى تقريبا. تغير له ملابسه المبتلة، بطريقة توحى أنها تعودت على هذا العمل المتكرر.. تؤديه بلا تذمر ومن دون حماس، تتجه إلى والدتها «حياة»، بأداء طبيعى من «سلمى النجار»، العلاقة بينهما بالغة العمق، قليلة الحوار، فثمة تواصل بينهما لا يحتاج لكلام، يصل لنا، بوضوح، نتفهمه برغم خلوه من الألفاظ.. وعلى طول الفيلم، تتعمد هالة لطفى الابتعاد عن ثرثرة الحوارات التى تثقل كاهل أفلامنا المصرية عموما، وهى ــ لطفى ــ تستعيض بالمؤثرات الصوتية بدلا من الموسيقى المصاحبة، مما كثف الإحساس بواقعية الفيلم، فالأصوات المتصاعدة من الشارع، والضربات على أنابيب البوتاجاز، ونزول المياه من صنبور المطبخ، كلها، أصوات نابضة بالحضور والحياة.

تتحرك البنت، والأم، فى الشقة الصغيرة، بعفوية من عاش حياته كاملة فى المكان. أثاث قديم، متآكل ومهترئ، لا تكاد تغادره كاميرا المصور المتمكن نشأت رمزى، إلا عدة مرات، وللضرورة.

المكان هنا، بمقتنياته يقول الكثير: الثلاجة الخاوية، إلا من أقل القليل، كراكيب المطبخ الضيق، الخانق، الجدران الكالحة التى لم تلمسها فرشة طلاء من زمن.

الأم، بعظام وجهها البارزة، وظهرها المنحنى قليلا، نظرتا المنهكة، تعبر ببلاغة عن مدى إرهاقها، فى العمل ممرضة فى مستشفى صغير، بالإضافة لرعايتها لزوجها الذى لا يقوى على الحركة.. إنها، وابنتها، هما بطلتا الفيلم، وهذا لا يعنى أننا بإزاء «دراما مغلقة»، ولكن العكس هو الصحيح، فثمة عدة شخصيات ثانوية، وربما هامشية، وأحيانا لا نراها، تتمتع بحضور قوى، كل ما فى الأمر أن كاتبة السيناريو، استوعبت فن الاختصار والاختزال، من تشيكوف أدبيا وفضلا عن مبدعى السينما العالمية.. فى مشهد واحد، يطرق باب الشقة ابن اخت «حياة»، شاب مجند، طيب وغلبان، جاء حاملا كيس برتقال. تستقبله سعاد بفتور. يجلس وحيدا، يدرك أن أحلامه فى الارتباط بابنة خالته لن تتحقق يجز على أسنانه ويكتسى وجهه بالتعاسة.. إنه حكاية.

فى الميكروباص، تجلس إلى جانب سعاد فتاة مضطربة نفسيا، فى مثل سنها، لا تعمل ولم تتزوج، تظن أن عفريتا أو «جنا» لبسها، وهى، المحجبة، تنوى الذهاب إلى قس فى حلوان، كى «يفك العمل»، وسواء كانت صادقة أو نصابة، فإنها أيضا «حكاية»، أو جانب آخر لسعاد، أو مرآة مشوهة لها، إن شئت الدقة.

ليلا، أثناء عودة «سعاد»، لا يبقى سواها فى الميكروباص. السائق الملتحى يثير عندها المخاوف، خاصة حين يغير مساره، زاعما أن ثمة كمينا، وأن رخصه مسحوبة.. وما إن تندلع مشادة بينهما تنتهى فورا بإنزالها من العربة، ويبدو السائق حانقا على الدنيا كلها. إنه كذلك.. حكاية.

أما حبيب «سعاد» فإننا لا نراه أبدا، ولن نسمع صوته.. هى فقط تحدثه من محمول غير محمولها، ذلك أنه لا يرد على رقمها، بعبارات قليلة، موجزة، نتأكد أنه يتهرب منها. وبلا ألم أو ضيق، تخطره أن ما بينهما لم يكن قصة حب، وأنها توافق على انتهاء العلاقة بينهما، ذلك أنها تخلو من الوعود.

ميزة «الخروج للنهار» تكمن فى التفاصيل الصغيرة، المتوافرة فى الحياة والتى لم تلتفت لها أفلامنا، فعلى سبيل المثال، انزعاج الابنة من قرح الفراش المتزايدة فى ظهر الأب العليل، والسؤال عن ثمن المرتبة الصحية، ولحظات الإفاقة العابرة للأب أثناء انطلاق صوت أم كلثوم، وبينما تؤدى الابنة واجبها تجاه الأب، تسلك الأم ذات السلوك، بقدر أكبر من الحنو.. الأم، الصامدة، الصامتة، العاملة بلا كلل، لا ترد على ابنتها عندما تسألها عن مدافن الأسرة، فقط تنظر تجاه الشرفة وهى تفك قطع القطن كى «تنجد» المرتبة وكأنها تعلق على السؤال: هل نحن نعيش فى مكان آدمى ولم يبق إلا رفاهية معرفة المثوى الأخير، مخرجتنا الكبيرة، فى أول أفلامها، تنعش آمالنا بأسلوبها الساحر، وتمكنها من تقديم عمل ناعم، تعبر فيه عن واقع قاس، تبتعد فيه تماما عن البكائيات، متكئة على صلابة مصريين منسيين، تقدمهن هالة لطفى، بتوقير ومحبة.. إنه عمل يستحق التقدير الرفيع الذى ناله، فى كل مكان عرض فيه.. ويليق بنا، أن نشاهده أكثر من مرة

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات