بُستَنجى باشا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 3:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بُستَنجى باشا

نشر فى : الخميس 9 مايو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 9 مايو 2013 - 8:00 ص

حيثما شرَّقتُ وغرَّبت ظلت معضلة اجتماع جمال الطبيعة مع فظاظة وقسوة البشر تحيرنى، بلاد وبلدات تزخر بالغابات والحدائق والأنهار والبحيرات، جرت فيها مذابح سياسية وعرقية أبشع ما تكون، وأخرى تجثم على صدورها أنظمة بوليسية وشمولية غليظة، وثالثة تتسلط عليها احتقانات طائفية متعصبة أغبى ماتكون. كيف يجتمع الجمال مع القبح ؟!

 

هذا السؤال المشفوع بعلامة الاستفهام وعلامة التعجب، لم يكف عن التوارد إلى خاطرى برغم أننى كففت عن السفر وانقطعت عنى سيرة تلك البلدان من سنين، ومع ذلك لم أجد له أجابة تقنعنى قبل أن تقنع غيرى، لكننى وأنا أقرأ كتابا فريدا عن التاريخ العضوى والسياسى والاجتماعى والاقتصادى لزهور «التوليب»، أو الزنبق، وجدت صورة من هذه الازدواجية العجيبة تطالعنى بشكل صارخ، ولعلنى فى وهج صراخها أكون قد أمسكت ببداية لحل اللغز.

 

يقول هذا التأريخ أن زهور التوليب أو الزنابق دخلت أوربا عبر تركيا العثمانية عام 1562، فقد برع العثمانيون فى زراعة هذه الزهور والعناية بجمالها وتحسين ألوانها وأنواعها، وكانوا يقدرونها تقديرا يكاد يكون روحيا كما أنها كانت زهرة سلطانية تزخر بها حدائق قصور السلاطين العثمانيين، وأشهرها بالطبع قصر « توب كابى» أو «مُقام النعيم»، الذى لايزال أعجوبة اسطنبول الجميلة حتى اليوم، ويُحكى أن «مقام النعيم» فى عهد السلطان سليمان كان يعمل فى حدائقه ألف بستانى، كانت أهم واجباتهم أن يعتنوا بزنابق السلطان ويزيلوا من حولها الأعشاب الضارة، كما كانوا يعملون كحراس وحمالين وعمال نظافة، أما أغرب مهامهم فكانت المشاركة فى تنفيذ أحكام الإعدام التى يصدرها السلطان، فكانوا يخيطون الأكياس المثقلة بالنساء المدانات التى ستلقى فى مياه البوسفور، وكان مجرد مرأى مجموعة بستانيين معتمرين بقلانس حمراء يرتدون زيهم الرسمى ينزل فى القلوب الرعب، خاصة وقد كانوا يُنتَقون مفتولى عضلات الأذرع والصدور التى تكشف عنها قمصان مفتوحة وأكمام مشمرة وتوحى بالقتل خنقا تبعا لبعض طقوس الإعدام التى كانت متبعة آنذاك!

 

هؤلاء البستانيون الجلادون كان يترأسهم كبير بستانى السلطان الملقب بالتركية «بُستنجى باشا» وكان يقوم إضافة بتوليه أهم شئون زهور التوليب، مهام تنفيذ أحكام الإعدام التى يصدرها السلطان على كبار مسئولى السلطنة حال إدانتهم، وكان ذلك التنفيذ يتم بواحدة من أغرب عادات قصور الطغاة التى شهدها التاريخ، فما أن يصدر حكم الإعدام حتى يُسمح للمُدان بأن يركض بأقصى سرعته مسافة تقارب الألف متر عبر الحدائق، نزولا إلى بوابة «منزل الأسماك» والتى تقع على أقصى الطرف الجنوبى لقصر توب كابى حيث المكان المخصص للإعدام، فإذا وصل الرجل المدان إلى بوابة «منزل الأسماك» قبل البستنجى باشا يخفَّف حكم الإعدام إلى مجرد النفى، وإذا وجد المسكين البستنجى باشا فى انتظاره، يُعدَم دون إبطاء وتُقذَف جثته فى البحر! وكان آخر رجل أنقذ حياته بالفوز فى سباق الحياة والموت هذا، هو حاجى صالح باشا كبير الوزراء فى الفترة ما بين عامى 1822 1823!

 

«بستنجى باشا» المرعب كان بموازاة مهام الجلاد يقوم على وجه الخصوص بواجبات توفير زهور التوليب لتزيين أجنحة المعيشة فى القصر، وهو استثناء نادرا ما كان الأتراك يلجؤون إليه لاستعراض زهورهم المفضلة، فقد كانوا يؤثرون بقاءها فى الحدائق التى نمت فيها، إلا أن هذه العادة ازدهرت داخل أسوار توب كابى، أو مقام النعيم. وكانت زهور التوليب عادة ما تُعرض فرادى، وقلما كانت تُعرض فى مجموعات صغيرة منسقة داخل مزهريات زجاجية جميلة مزركشة بزخارف تُعرف باسم « عين العندليب « ويتم نشرها على مناضد أنيقة منخفضة!

 

لقد قرأت هذه المفارقة الرهيبة غير مصدق تماما لصحتها نظرا لفظاعة القتل التى تتناقض مع روعة زهور التوليب وما يفترض فى بُستانييها من إحساس بالجمال، لكن الكتاب الذى يحمل عنوان «هوس الزنابق» أو «جنون الزنابق» TOLIPOMANIA يُعتبر من أهم كتب التاريخ الحديثة التى تؤرخ للأحداث والمتغيرات الاجتماعية والسياسية البشرية وغيرها، عبر تتبع مسار زهرة أو نبات أو حيوان أو ظاهرة طبيعية، ومؤلفه « مايك داش «مؤرخ انجليزى حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة لندن، وقد رُشح مرتين لجائزة بوليتزر الأمريكية للدراسات التاريخية وهى جائزة مشهورة بالنزاهة وما من مرشَّح لها أو فائز بها إلا وينطوى على قيمة علمية وإبداعية حقيقية . لهذا راجعت عدم تصديقى فى ضوء ما أعرفه عن جنون قصور حكم القيصيريات والامبراطوريات والخلافات والسلطنات والممالك، وبه مفارقات مماثلة فى الغرابة والشناعة تعطى لمفارقة البستنجى باشا احتمال المصداقية التاريخية..

 

«إكاترينا» قيصرة روسيا الشهيرة كانت تقضى بمرح عابث على كل عروسين من العاملين فى قصرها أن يقضيا ليلة زفافهما فى بيت منحوت من الجليد وغالبا ما كان العروسان يُصابان بالتهاب رئوى يقف بهما على حافة الموت، وإن نجيا يكون شهر عسلهما قد تحول إلى بصل أسود حالك وحارق. ونيرون عندما أحرق روما كان يطل من شرفته على المدينة المحترقة وهو يقهقه مفتونا بجمال توهج النيران فيها! وهتلر الذى أشعل حربا التهمت عشرات الملايين من الألمان والأوروبيين كان مولعا بالرسم ويقدر قيمة لوحات الفنانين العظام، حتى ليقال إنه لم يقصف مدينة «بطرسبرج» وظل يحاصرها لتسقط دون قصف فلا يُدمِّر تراثها من اللوحات العالمية فى متحف «الأرميتاج» الذى كان قصر الشتاء فى الزمن القيصرى. لكن هذا ليس كافيا لسبر أغوار المفارقة فى اجتماع الجمال الطبيعى والوحشية البشرية فى قصور ذلك النوع من الحكم بأطيافه المختلفة.

 

 مظاهر التناقض الصارخ بين تذوق الجمال وقبح القسوة ماهى إلا سطح القصة، أما أعماقها فلابد أن يكون داخلها دوافع تزيل هذا التناقض ولو بشكل تلفيقى لدى الحكام الدمويين وتابعيهم الجلادين من نوع البستانيين أو محبى الزهور واللوحات والإبداعات النفيسة، وهنا لا أجد أمامى غير احتمال يلغى هذا التناقض عندما يعتبر القيصر أو الامبراطور أو الخليفة أن من يُنزِل بهم العقاب مهما كانت وحشيته هم مستحقون له، على قاعدة أنهم أدنى منزلة من القيصر أو الامبراطور او الخليفة أو حتى البستنجى باشا. بل باعتبارهم حال ارتكابهم ما يُجرِّمه هذا الحاكم نوعا غير بشرى وربما غير حى على الاطلاق، ومن ثم يجوز اللهو بأرواحهم والتسلى بهم حين يُعدمون. وعندما يتلبس القيصر أو الامبراطور أو الخليفة وهم أنه ظل الله فى الأرض، فإنه يمتلك صك استباحة من يعتبرهم خُطاة فى حقه، أو مجرد عوائق فى طريقه، حيث كل طُرقه مقدسة!

 

طبعا سأتلقَّى شتائم وسخائم من لم يهذبهم تدين صادق ولا عقل ولا ثقافة ولا ذوق لمجرد أننى أورد هذه الصفحة المجهولة من تاريخ قصور الخلافة، التى يحلمون بها ويقدسون طيفها فيما لم يعد «الإسلاميون» الأتراك انفسهم يطلبونها وهم فى الحكم. لقد تطهرت زهور التوليب كرمز وطنى تركى جميل أصيل يزين الأناقة والجمال الطبيعيى التركى والتعقل فى الحُكم، واندثرت الخلافة غير الرشيدة وذهب السلاطين، ولم يعد «مقام النعيم» غير متحف لعظمة غابرة وتناقض مخيف. فهل يكون قدرنا محفوفا بسلالة من البستنجى باشا تسللوا من ثغرات الوجه المعتم والفظ من قصور النعيم، ليقيموا لدينا قصور جحيم لابساتين فيها ولا توليب ولا عظمة من أى نوع؟

 

من هذا الذى جاءوا به وزيرا للثقافة؟! سؤال وجدته يطرح نفسه عندما سمعت اسم وزير الثقافة الجديد فى الوزارة الإخوانية التى أُعلن عنها بينما كنت أنهى هذا المقال (مساء الثلاثاء)، ولم أستطع تنحية السؤال عن خاتمة مقالى الذى كتبته بقصد التنبيه إلى أن مصابنا السياسى أخطر ما فيه أن جوهره ثقافى!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .