التائب - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 7:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التائب

نشر فى : الأربعاء 5 ديسمبر 2012 - 8:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 5 ديسمبر 2012 - 8:45 ص

من هو هذا الشاب الملتحى، المنهك، بأنفاسه اللاهثة، الذى يجرى فوق أرض وعرة، مغطاة بالثلوج وأفرع شجرة جافة؟.. الإجابة الملتبسة، عن عمد، تأتيك طوال الفيلم.

 

إنه رشيد، بأداء نبيل العسلى، هارب من جماعات الإرهاب، أو الجهاديين إن شئت، استجابة واستفادة من قانون «العفو العام والوئام الوطنى» الذى أصدرته الحكومة الجزائرية إثر «العشرية السوداء»، عقب مقتل واختفاء الآلاف.. وفورا، فى مشاهد قوية، قليلة، يعبر المخرج المخضرم، مرزاق علوش، عن واقع شديد القسوة، يتجلى فى بيوت فقيرة، مبنية بحجارة مهشمة، نوافذها من صفيح صدئ. رشيد، يطرق بابا، ومثل كل الأمهات، تستقبله والدته العجوز بالأحضان والسعادة والدموع. موقف إنسانى يزداد تأثيره حين يسترد والده شيئا من صحته بمجرد أن يرى ابنه الغائب.. فجأة، يتجمع رجال أمام البيت، يطالبون بالقصاص من الوافد لأن سبعة من زملائه الإرهابيين ذبحوا جارهم الشاب الذى غادرهم، وترك الجبل، وأعلن توبته. بصعوبة، يُنقذ رشيد. يقرر ترك قريته المنسية والذهاب إلى المدينة، بحثا عن عمل، والإعلان، فى قسم الشرطة، عن توبته.

 

فى «وهران»، تتحرك الكاميرا المحمولة على يد المصور الماهر، محمد طيب لاجونى، مع بطل الفيلم، على نحو يوحى بمدينة قلقة، مرتبكة المرور، تكتظ بالعاطلين.. وأمام ضابط، يرتدى زيا مدنيا، يسلم رشيد مسدسه.. يعلن توبته.. وطبعا، يطلب منه الضابط أن يتعاون معه مقابل إلحاقه بعمل.. وفعلا، يعمل رشيد فى مقهى صغير، يشترط عليه صاحبه أن يحلق لحيته درءا للشبهات، ويبدو وجه رشيد، بعد التخلص من شعر ذقنه، على درجة كبيرة من الوداعة، لكن صاحب المقهى العجوز، يتشكك فى الشاب، ويلمحه، بخبرته فى الحياة، وهو يلتهم بنظراته البنات العابرات أمام المقهى، ويظل السؤال عن حقيقة رشيد معلقا.

 

على طريقة الأفلام البوليسية، يتحدث رشيد، تليفونيا، مع صاحب صيدلية، حديثا غامضا، عن موضوع يعلمه الصيدلى، ويخصه، ولا نعرف عنه شيئا.. الصيدلى، الرجل الخمسينى، بأداء خالد بن عيسى، يعيش وحيدا. يعبر الفيلم عن وحدته وتعاسته بانغماسه فى شرب الخمر، ومشاهدته لقناة تليفزيونية صينية لا يفقه كلمة منها.. وحتى، بعد عودة زوجته المنفصلة عنه وهجرتها للخارج طوال خمس سنوات، لا يستجيب للمسة أصابعها على ظهر كفه، ذلك أنه محبط وزاهد.. الفيلم يجيد الاختزال والتكثيف.

 

غموض مكالمات رشيد للصيدلى تتكشف: ابنة الصيدلى، جرى خطفها وقتلها من قبل الإرهابيين، أو المجاهدين كما يطلقون عن أنفسهم. السبب، أنه توقف عن مدهم بالأدوية. ولأن والدتها لم تتحمل البقاء فى وطن قام بعض ابنائه بوأد وحيدتها، سافرت إلى بلاد بعيدة، وما عودتها، بناء على دعوة زوجها، إلا لأن «رشيد» يعرف مكان دفن الابنة، وعلى استعداد أن يدلهم عليه.. نظير مبلغ من المال.

 

موقف مرزاق علوش المبهم، حسب تقييم نقاد عدة، يتجلى هنا إلى حد ما، وإن جاء ملتبسا بسبب تحاشيه الكشف بوضوح عن دوافع بطله، فهل هو مجرد مخلب من مخالب جماعات خارج القانون، كلفته بعملية ابتزاز من أجل النقود، وهذا ما يصب فى طاحونة الاعتراض على قانون «الوئام الوطن» الذى أدى إلى نجاة القتلة وتحصينهم من الملاحقة القضائية، الأمر الذى لا يحدث إلا فى دولة فاشلة، دب الوهن فى مفاصلها.. وهذا التفسير أثار حفيظة الصحافة الرسمية فى الجزائر، فشنت حملة على الفيلم ووصفته بأنه يسىء إلى سمعة البلاد وكرامتها.. ومن الممكن تفسير ما فعله «رشيد» إلى أنه من معتادى الإجرام، نفذ خطته لحسابه الشخصى.. وربما ــ وهذا أضعف الإيمان ــ ثمة من يرجع مسلك الشاب إلى رفض المجتمع له من ناحية، واحتياجه الشديد للمال من ناحية ثانية.

 

أيا كان الأمر، فإن الفيلم يتابع رحلة شخصياته الثلاث، الصيدلى وزوجته ورشيد، بالسيارة، إلى مكان دفن المغدورة، أثناء المشوار المفعم بالانفعالات الحادة، المتضاربة، يروى رشيد، فى نوبة اعترافات قاسية، بما شاهده من عمليات قتل، مما يدفع زوجة الصيدلى، بأداء عديلة بن ديمراد، إلى إصابتها بما يشبه الهستيريا.. أخيرا، يصل الموكب إلى منطقة أحراش موحشة فى الجبل. يشير لهما بمكان الجثمان. وعلى طريقة الميلودرامات الفجة، تصرخ الزوجة، وتلقى بنفسها على الأرض، وتنبش التراب. إنه أضعف مشاهد الفليلم وأكثرها افتعالا.

 

مرزاق علوش، صاحب الرؤية المركبة، المهم، المثير للجدل، ينهى فيلمه بالصوت وليس بالصورة، فعقب رصد الكاميرا، من بين النباتات الشائكة، لأقدام تقترب من المكان، تدوى طلقات رصاص منهمر من مسدسات ومدفع رشاش، وكأن المخرج، كاتب السيناريو، وهو يفتح جروح «العشرية الدامية»، يحذرنا.. من احتمال عودتها.

 

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات