تلميذة زكى طليمات.. تعتزل مرتين - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 9:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تلميذة زكى طليمات.. تعتزل مرتين

نشر فى : السبت 4 ديسمبر 2010 - 11:13 ص | آخر تحديث : السبت 4 ديسمبر 2010 - 11:14 ص

 دخلت برلنتى عبدالحميد عالم السينما من بوابة صلاح أبوسيف، فهو الذى قدمها أول مرة فى «ريا وسكينة» 1952.. وهى، جاءت فى الوقت المناسب تماما، ففى الفترة التى ظهرت فيها كانت رياح الواقعية تهب على السينما المصرية. ومن الطبيعى أن يبحث صناع الأفلام عن وجوه «محلية»، مصرية، ذات طابع شعبى، تدخل فى نسيج أعمالهم وتنفحها صدقا تحتاجه هذه الأفلام التى تهتم بالشارع، وبالعاديين من الناس.. برلنتى، لا علاقة لها بنجمات الصالونات، ذوات الجمال الأوروبى الذى لا يخلو من ارستقراطية: ليلى فوزى، أسمهان، مريم فخر الدين، هند رستم، مارى كوينى..

إنها سمراء، ذات وجه ممتلئ الخدين، شأنه شأن جسمها البعيد عن مواصفات «المانيكان»، ذات شعر فاحم السواد، مشعث إلى حد ما، تغطيه بمنديل رأس، نجحت برلنتى فى اختبارها سينمائيا، ذلك أنها تتلمذت على يد الأستاذ الكبير، زكى طليمات، حين التحقت بالمعهد العالى لفن التمثيل، وكانت ترغب فى دراسة «النقد والأبحاث الفنية»، لكن العميد، بنظرته الثاقبة، رأى أنها تتمتع بحضور يؤهلها للوقوف على خشبة المسرح، فقرر أن يدخلها قسم التمثيل، ولاحقا، غيرت اسمها من «نفيسة عبدالحميد محمد» إلى «برلنتى عبدالحميد»، وقدمت العديد من الأدوار، مع زملاء دفعتها: عمر الحريرى، سناء جميل، شكرى سرحان، نور الدمرداش، عبدالغنى قمر، فى فرقة «المسرح المصرى الحديث»، ثم فى «الفرقة المصرية»، عماد «المسرح القومى».

بدا واضحا، منذ المشاهد الأولى لها، فى «ريا وسكينة»، أنها تتمتع بخبرة ودراية فى فن الأداء، فحين يسألها ضابط الشرطة عن صديقتها التى اختفت ترتبك، تخاف من افتضاح أمرها لأنها كانت مع حبيبها. وبنظرات لا تكاد تستقر تجيب عن أسئلة الضابط وتشعرك فى توترها الداخلى العاصف، بخفقات قلبها المثقل بتوقعات متشائمة.. وحسب تعاليم زكى طليمات، المتوافقة مع أسلوب صلاح أبوسيف، ابتعدت عن «الغنائية»، والمغالاة، ولجأت إلى التعبير المقتصر، البسيط المؤثر، باللفتة والنظرة وطريقة نطق الكلمات، بعدما تفهمت واستوعبت أبعاد دورها.

جمال شعبى
ليست مصادفة أن يختار توفيق صالح، الواقعى، برلنتى عبدالحميد، كى تقوم ببطولة أول أفلامه «درب المهابيل» 1955.. وبينما تحرك صلاح أبوسيف فى شوارع الإسكندرية وميادينها وحواريها، فإن توفيق صالح توغل فى عمق وقاع القاهرة حيث الصراعات المندلعة بين سكان حارة تعيسة، بسبب ورقة يانصيب رابحة، كانت من نصيب «قفة»، بأداء عبدالغنى قمر، الأبله، المتسول.

وبعيدا عن مغزى الفيلم المتميز، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، الذى يبين بجلاء مغبة الثروة الفجائية، التى لا تأتى عن طريق العمل، اهتم توفيق صالح، فنيا، بجميع التفاصيل الواقعية: الديكور، الإكسسوارات، الحركة، الظلال، تعاقب ليلة واحدة على نهار واحد، وساعدت برلنتى، بطابعها المحلى، فى تكثيف الإحساس بصدق واقعية الفيلم.. وهذا «الطابع» ليس مجرد مظهر شكلى، يتجسد فى الملاءة اللف مع جسم الممثلة، أو تناسق منديل الرأس مع شعرها ووجهها، ولكن يسطع من خلال علاقة الفنانة بكل ما تستخدمه، وما يحيط بها، فعندما تمسك «بكوز» الماء لتغرف به من ماء صفيحة، تأتى الحركة تلقائية تماما.

وعندما تضع الأطباق على «الطبلية» تبدو كما لو أنها عاشت حياتها كاملة تؤدى هذا العمل. و«الملاءة اللف» التى تسيطر برلنتى عليها، تستخدمها مرة لستر جسمها، وتستخدمها مرة أخرى كوسيلة للتعبير عن حب ممزوج بالرغبة عندما تجعلها تنسدل عن إحدى كتفيها مبرزة ذراعها أمام خطيبها.. وفى مرة ثالثة تلف بها نفسها، على عجل، وهى تخرج من باب شقتها مضطربة، لتستطلع المأزق الذى وقع فيه زوج المستقبل شكرى سرحان المتهم بالقتل.

سواء فى «ريا وسكينة» أو «درب المهابيل»، رسمت شخصيتها رسما واقعيا، منطقيا، على أساس أنها شابة عادية، لم تحظ بالعلم أو بالعمل، وبالتالى فإنها قليلة الحيلة، تريد أن تعيش وتحيا وتتزوج.. لا تتمتع بجمال صارخ أو فتنة زائدة، وإن كانت تتدفق بالحيوية، بحكم سنها.. إنها النموذج الأحدث، والأكثر مهارة، والأعمق شعبية بالقياس إلى فاطمة رشدى فى «العزيمة» لكمال سليم 1939، أو عقيلة راتب لكامل التلمسانى 1945.

من الواقعية إلى الطبيعية
لم يكتب لبرلنتى عبدالحميد الاستمرار فى تقديم الإنسانة العادية، ذات العقل والعاطفة، ذلك أن دورها فى «رنة الخلخال» لمحمود ذوالفقار 1955، سيضعها فى إطار لن تتحرر منه أبدا، بل ستنتقل به من فيلم لآخر، طوال ما يقرب من العشر سنوات، قبل أن تستوعبها حياتها الشخصية.

نعم، فى «رنة الخلخال» وأفلام أخرى، تعيش برلنتى فى حارة، أو زقاق أو حى شعبى، ولكنها تقدم على أنها غريزة تمشى على قدمين، تتميز بجمال وحشى، بدائى ومثير، فضلا عن مزاج نارى، دموى، مدمر، شرير.. وهذا التصور المتجنى للمرأة، يأتى انعكاسا و«تمصيرا» لمفهوم المرأة «كنوع» بالغ الرعونة والتدنى، والذى قدمته السينما الأمريكية فى الكثير من أفلامها التى قامت ببطولتها ريتا هيوارث وأفا جاردنر ومارلين ديتريش وبيتى ديفز.

وربما ستجد مقدمات للمرأة الشريرة، فى السينما المصرية، قبل برلنتى عبدالحميد، متمثلة فى ميمى شكيب أو زوزو نبيل أو زوزو ماضى.. ثم، أحيانا، فى تحية كاريوكا وهند رستم وهدى سلطان، ولكن لن تصل أبدا فى جنوحها إلى ما وصلت له برلنتى عبدالحميد.

مع بداية «رنة الخلخال» تصور الكاميرا بيوت ومآذن القاهرة، مع صوت واثق وقور، كأنه الحقيقة المطلقة، يقول «الحياة صراع.. صراع بين الخير والشر.. بين الدين والدنيا.. بين الرجل والمرأة.

فى حى سيدنا الحسين.. تقع قصتنا هذه».هكذا: الخير والدين والرجل فى جانب.. وفى الجانب الآخر، على النقيض، الشر والدنيا والمرأة، ويأتى الفيلم كترجمة لهذه المقولة المعادية فى جوهرها للمرأة.

فى المشاهد الأولى تركز الكاميرا على ساق يلفها «خلخال»، وترتفع الكاميرا لدى بقية جسم «لواحظ» برلنتى التى ترتدى جلبابا قديما مهترئا، مقطوعا عند أعلى الذراع. تدخل مخبز العجوز «عبدالوارث عسر» الذى يمنحها قطعة قماش قائلا إن والدها كان طيبا، وأن ابنته تستحق الشفقة.. وتتدفق الأحداث سريعا. العجوز يتزوج الشريرة، بينما ابنه، شكرى سرحان، يتزوج مريم فخر الدين، والجميع يعيشون فى شقة واحدة، أعلى المخبز.. ومع توالى المشاهد تتفتح غرائز «لواحظ»، معززة بتلاشى أى حس أخلاقى، فتحاول، بكل ما تحمله من فتنة، أن تثير ابن زوجها، وتزداد رغباتها تأججا، عندما تصل إلى أذنيها مداعباته لعروسه التى تتمتع وتضحك منتشية..

وتتحول «لواحظ» من امرأة غرائزية إلى امرأة مجرمة، فهى تستبدل وليد غريمتها بوليد ميت كى تستولى هى عليه بعدما تظاهرت بأنها حامل طوال فترة حمل زوجة ابن زوجها، ثم فى أحد المشاهد العاصفة، تقتل القابلة نجمة إبراهيم التى شاركتها فى الجريمة، والتى دأبت على ابتزازها بطلب المال. «لواحظ» تدفع القابلة من سور الشقة لتسقط إلى أرضية الفرن.

«رنة الخلخال»، لا ينتمى للواقعية بقدر انتمائه للمدرسة الطبيعية التى تنظر للإنسان على أنه مجرد غرائز ونتاج حتمى للقوانين الوراثة، دون الالتفات إلى وعى وإرادة البشر، وقد تبلورت «الطبيعة» فى بعض أفلامنا، مثل «شباب امرأة» لصلاح أبوسيف 1956 ببطولة تحية كاريوكا، و«امرأة فى الطريق» لعزالدين ذو الفقار 1958 بطولة هدى سلطان.. ولاحقا، فى «فضيحة فى الزمالك» لنيازى مصطفى 1959، تؤدى دور امرأة تعيش فى قبضة الشراهة إلى المال والجاه والحياة الناعمة، تحقد على شقيقتها الميسورة الحال، ولا تستطيع أن تحب إلا نفسها، ولا تعشق إلا طموحها ولا تعيش إلا وفق قانونها الخاص.. تمنح جسدها إلى عجوز وغد محمود المليجى يموت بين ذراعيها وهى فى شقته وتتهم شقيقتها، ويتهم زوجها أيضا، من دون أن يرمش لها جفن.

هكذا: جذابة وفاتنة من الخارج، مظلمة تماما من الداخل، ظلمتها تكاد تبتلع كل من يقف فى طريقها، تجلب الكوارث حتى لأقرب المقربين منها.. وهى فى هذا تعبر ببلاغة عن موقف العديد من الأفلام المصرية، المعادى للمرأة.

نهاية صورة
تضافرت الظروف الموضوعية، ربما أكبر من الظروف الذاتية، أدت برلنتى إلى التوقف عن العمل، بعدما يقرب من الثلاثين فيلما. نعم، زيجتها من مسئول كبير دفعتها إلى الاعتزال، لكن لا يمكن أن نغفل ذلك التطور الذى حدث فى الواقع من ناحية، وفى الفكر السينمائى من ناحية أخرى، فواقعيا، خلال الخمسينيات والستينيات، تحررت البنت المصرية من الجهل، وأصبح العلم بالنسبة لها ضرورة، واقتحمت مجالات العمل المختلفة، الأمر الذى يتجاوز المهن المنقرضة التى تؤديها برلنتى فى أفلامها، فهى إن لم تكن قعيدة البيت، فإنها مجرد «غازية» فى «نداء العشاق» ليوسف شاهين 1960، تنقل الخراب فى كل مكان ترتحل له، كذلك الحال فى «صراع فى الجبل» لحسام الدين مصطفى 1961، حيث تحاول الوقيعة بفتنتها بين شقيقين رشدى أباظة ومحسن سرحان وهى راقصة من القاع فى «حب وإنسانية» لحسين فوزى 1956، و«حياة غانية» لحسين حلمى المهندس 1958، أو حتى «زيزيت» لسيد عيسى 1961.. ومن الجلى أن تكبيل برلنتى عبدالحميد فى هذا البعد الاجتماعى الضيق كان بغرض الاستفادة منها، بأقصى درجة ممكنة، كواحدة من أهم المتربعات على عرش الفتنة.

ربما كانت ستتغير صورة برلنتى، بالضرورة، لو استمرت، خاصة أنها متمكنة من فنها، لكن الحادث أن أنماط البنت المصرية التى أفرزها الواقع، وجدت من يجسدها على الشاشة، مثل لبنى عبدالعزيز، نادية لطفى، ليلى طاهر، سعاد حسنى، وكلهن، لهن عقل وإرادة ومهن.
بعد عقد ونصف العقد، حاولت برلنتى العودة إلى الشاشة، لكن تحت الجسر، تدفقت مياه كثيرة، حاملة معها دنيا جديدة، لا علاقة لها ب«العش الهادئ» لعاطف سالم 1976، و«الهانم بالنيابة عن مين» لأحمد خضر 1990.. والواضح أن برلنتى، مع فشل الفيلمين، أدركت أن دورها انتهى، فاعتزلت من جديد.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات