العصفورى.. فنان من زماننا - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 6:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العصفورى.. فنان من زماننا

نشر فى : الأحد 4 مايو 2014 - 6:25 ص | آخر تحديث : الأحد 4 مايو 2014 - 6:25 ص

ما لا يعرفه سمير العصفورى، هو كيف نراه؟.. الفارق بيننا عقد من الزمان، لا يبدو طويلا الآن، لكن كان يبدو واسعا حين كنا فى العشرينيات، وهو فى الثلاثينيات. نحن لم نبدأ بعد، بينما العصفورى، العائد من بعثته توا، غدا مرموقا ولامعا، مع عروضه المسرحية الأولى، بما تحمله من نفحات حداثة مبهرة، ابتداء من اختيار نصوص غريبة، لم نسمع عن كتابها من قبل، إلى أسلوب فى الإخراج، يبتعد عن السائد والمعتاد، إلى طريقة فى أداء الممثلين لا علاقة لها بالمغالاة والتفخيم. حاءت أعماله، مع آخرين، صادمة للذائقة التى تعودت على أنواع محددة من المسرحيات، تراعى تقاليد المليودراما والكوميديا، وتحكى حكاية ذات بداية ووسط ونهاية، وتسير أحداثها وفق منطق صارم.. عروض العصفورى لها سحرها الخاص، سواء اعتمدت على نص ليوجين يونسكو، ينتمى لاتجاه «العبث» و«اللامعقول»، أو تتأمل، بعمق وشفافية معانى الحياة، بما تشمله من ميلاد وزواج وحزن وفرح وموت، كما عبر عنها تورنتون وايلدر فى «بلدتنا». أو تتضمن سخرية لأوهام المجد الزائل الذى يدركه «رومولس العظيم» التى كتبها دورينمات.

هذه الأسماء التى أمست متداولة ومعروفة الآن، كانت غامضة، مجهولة، فى الستينيات من القرن الماضى، شأنها شأن مقدمها، سمير العصفورى، مع فارق جوهرى، أننا لا نعرف سوى صورهم، بينما سمير العصفورى، بلحمه وشحمه ــ وهو كان ولا يزال من دون شحم ــ نراه رأى العين، فى حالة نقاش دائم، فى مدخل هذا المسرح وذاك. مقتصد فى حركته، منخفض الصوت، على العكس من صديقه وأستاذه، حمدى غيث، الذى يدعم صوته المرتفع بذراعيه الطويلين، وبينما تنطلق ضحكات من المتحلقين حول الأستاذ، الراعى الرسمى للمسرح العالمى، يكتفى العصفورى بشبح ابتسامة، طبعا من دون قهقهة. ولاحقا، لن تراه ضاحكا، فعادة، يعطى إحساسا أنه غاضب أو متحفظ لسبب ما، وربما، نصف مشغول بمسألة محيرة، لم يحسمها بعد.

عروض سمير العصفورى بدت لنا كالأحلام، تنساب ناعمة، تتناغم فيها الألوان مع الموسيقى المصاحبة مع المؤثرات الصوتية. الديكورات مع حركة الممثلين الطبيعية، المرسومة بدقة، وإذا كانت مسرحيات ممتعة فى المشاهدة، فإن الأجمل امتاعا، متابعة العصفورى فى البروفات، فبالنسبة لى.. وربما لآخرين، كنت أتسلل إلى صالة المسرح، وأجلس على مقعد فى أحد الزوايا المعتمة ــ تجنبا لطردى ــ لأراقب بشغف، كيف ينفذ رؤيته، من الورق الذى أمامه على منضدة، لتغدو نابضة بالحضور، على خشبة المسرح.. توجيهات وملاحظات العصفورى، لا تزال تتراءى أمامى، من دون إرادة استدعاء، كما أنها أصبحت، عندى، من المعايير النقدية.. إليك بعض الأمثلة:

فى مشهد محورى بمسرحية «زيارة السيدة العجوز» لدورينمات، بعد نجاح المرأة الثرية فى شراء أهالى القرية، وتعبئتهم ضد الرجل الذى غرر بها قديما، وتخلى عنها بنذالة، يدرك الرجل أن نهايته الفاجعة اقتربت. يحاول الهرب واللحاق بقطار الفجر.. وها هو، حاملا حقيبة، يتجه بها نحو المحطة. يزداد عدد الأهالى الذين يصافحونه بهدف تعطيله. يلتفون حوله. يجاهد ــ عبدالله غيث ــ المؤدى للشخصية، أن يكسر الحصار، بلا فائدة.. يتعمد العصفور، بجمالية نابعة من الموقف، أن يرفع «عبدالله» ذراعيه لأعلى، ومع تشديد الحلقة يتهاوى جسد صاحبنا. وتبقى ذراعاه معلقتان فى الفراغ مع تركيز الإضاءة عليهما، وبينما يبدو الأهالى، مع الرجل المختفى وسطهم، مجرد بقعة معتمة، ينخفض الذراعان، بيأس واستسلام. عندئذ، نسمع صوت صفارة القطار وعجلاته، وهما يبتعدان عن البلدة الصغيرة.

بصبر ودأب، أعاد الصعفورى إخراج الموقف عدة مرات، كى يحقق الانضباط المطلوب، بين حركة المجاميع والبطل، وبين الإضاءة والمؤثرات الصوتية، وأثناء البروفة الصعبة، لم يرفع صوت المخرج ولم يفقد أعصابه إطلاقا.. إنه متمكن، طويل النفس.

فى مرة أخرى، حضرت ــ متسللا طبعا ــ بروفة لمسرحية كوميدية، الممثلون، كانوا فى حالة إنفلات فنى، يضيفون «إفيهات» غير واردة فى النص، ويضحكون. بمتانة أعصاب، حاول العصفورى إعادتهم لجادة الصواب، بلا جدوى، فقال لهمم وهو يلملم أوراقه: يا سادة، سأترككم لمواجهة مصيركم، لكن اعلموا، أن الممثلين إذا انهمرت ضحكاتهم على خشبة المسرح، فإن الجمهور لن يضحك أبدا.. تأكدت لاحقا، من مدى صواب مقولة رجل الفن بامتياز، سواء فى المسرح أو على الشاشتين، الكبيرة والصغيرة.. هذه الذكريات، أثارها الكتاب الذى ظهر حديثا، بقلم سمير العصفورى، بعنوان «المسرح وأنا»، يعكس أسلوب العصفورى، المتسم بالعمق والشفافية، وعن جدارة، يستحق وقفة خاصة.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات