المخلِّص - يوسف زيدان - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 7:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المخلِّص

نشر فى : الإثنين 2 مارس 2009 - 2:09 م | آخر تحديث : الإثنين 2 مارس 2009 - 2:09 م

 هناك عدة أسباب للقعود (العام) فى بلادنا، عن استكمال أى مشروع نهضوى، وهى الأسباب القديمة الجديدة التى تفسر تأرجحنا الدائم ما بين بلوغ الغايات واليأس التام، بين الوقوف والنوم (الموت) أى: كوننا بين بين. ومن أهم هذه الأسباب، إيماننا العميق (غير المعلن) بمجىء المخلص! ولذلك ترى عوام الناس فى بلادنا، والخواص أيضا، يبتهجون جدا حين يلوح لهم شبح المخلص، أو البطل، الذى يتوهمون أنه سوف ينجز لهم ما ينتظرونه من (تغيير شامل) بمجرد ظهوره. ولذلك، لا يجب أن نندهش، مثلا، من فرحة شعبنا بصدام حسين حين وقف يهدد جيوش العالم، ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما تحامق العلوج (الكفار) وأقدموا على دخول بغداد، بلد الأشاوس (الأبطال).. وبعد أسابيع من الابتهاج والتوهمات، جاءت النكسات والوكسات التى نعرفها جميعا، وسقطت بغداد، ولا تزال ساقطة فى محيط متلاطم من الفوضى التى لن تنتهى قبل مرور سنوات طوال وأيام ثقال. ولم يعد الناس فى بلادنا يذكرون صدام حسين، بعدما تأرجحت معه تحت حبل المشنقة الأمريكية، أوهامُ الحالمين المستبشرين بيوم مجىء المخلص.

وبعد سنوات قليلة، ابتهج الناس فى بلادنا مرة أخرى، لما لاح لهم حسن نصر الله ملوحا بيدٍ من حديد ضد اليهود. وانتعش الأمل فى نفوس الناس لبضعة أسابيع، كانت خلالها صور (نصر الله) تملأ الشوارع والبيوت، وتملأ القلوب والصدور الفرحة بالبطل المخلص الذى أذل اليهود وأهانهم، حسبما كنا نتوهم ونرتاح للتوهم.. ثم عرفنا أن المخلص لم يخلِّص، وأن البطولة كانت باطلا ! فقد مات من الإسرائيليين فى حرب جنوب لبنان بضع عشرات، وفى مقابلهم مات ألوف من اللبنانيين. وفى مقابل (الإزعاج) الذى سببه حزب الله للمستوطنات الإسرائيلية القريبة، تم تدمير جنوب لبنان بالكامل.. ولما أخذ (نصر الله) جنوده مؤخرا، وحاصر بيروت، أدرك الناسُ فى بلادنا الفارق بين البطولة والبلطجة، وعادوا لتلك (القعدة) الدائمة، بائسين محبطين، ومنتظرين أن يلوح لهم فى مقبل الأيام مخلص آخر.

وترجع هذه الحالة (المرضية) التى أصابت عقلنا الجمعى، إلى الماضى السحيق، المنسحق! ففى أزمنة السحق والانسحاق، يشرئِبُّ الناسُ بأحلامهم متطلعين إلى لحظة انبثاق المخلص من بينهم. وهذه الفكرة المرضية فى أساسها، يهودية الأصل. نبتت عند اليهود مع طول معاناتهم القديمة، وبؤس أحوالهم فى القرنين السابقين على ظهور المسيح، والقرنين التاليين. ولم يكن بأيديهم ما يعينهم على البقاء، إلا انتظارهم للبطل الذى يخلصهم من الظلم والهوان، ويحقق وعد (عهد) الرب لهم بامتلاك الأرض الممتدة من النهر (النيل) إلى النهر (الفرات) وكانوا يسمون المخلص: ملك اليهود، الماشيح. ولما ظهر السيد المسيح الذى نعرفه، لم يرض به اليهود، ولم يرضوا بالذين سبقوه وتلوه من المخلصين، وهم بالمناسبة كثيرون، لا يقعون تحت الحصر.

وفى الزمن الإسلامى، لما اشتدت الأيام على آل بيت النبوة، وظل الأمويون والعباسيون يتعقبون ذرية الإمام على بن أبى طالب وزوجه فاطمة بنت الرسول، بالقتل والفتك والمفزعات؛ ظهرت عند الشيعة عقيدة المخلص (المهدى المنتظر) وعكفوا عليها قرونا طوالا من الزمان، يتصبَّرون بهذا الحلم فيتحملون واقعهم المرير.

وقد انسربت إلينا فى مصر هذه الفكرة، وعششت فى أذهاننا زمنا طويلا. فصارت تدعونا لانتظار المخلص، والقعود عن تخليص أنفسنا.. وصار المخلص فى أعماقنا، وأوهامنا، مرتبطا بالشجاعة والإقدام والبطولة العسكرية والحلول العبقرية والنهضة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والبهجة النفسية والأحلام الهلاوسية والفرص الضائعة المجانية والمواقف الهزلية والنهايات المأساوية.. ومرتبطا بالطبع، بحالة القعود الأبدية الأزلية! فلا نحن نخلِّص أنفسنا من حالة (البين بين) ولا نحن يأتينا من يخلصنا منها.

وبطبيعة الحال، فإننا لن نخرج من حالتنا المرضية المستعصية هذه، إلا إذا طرحنا من عقولنا وقلوبنا هذا الوهم المسمى (المخلص) وإلا فسوف نظل طويلا قاعدين، لا ننهض تماما، ولا نموت تماما.. ولحالة القعود أسباب أخرى، منها (الانقطاع) الذى سنتوقف عنده فى مقالنا القادم.
فإلى لقاء.

يوسف زيدان كاتب وروائي مصري
التعليقات