النبطى4 - يوسف زيدان - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النبطى4

نشر فى : السبت 13 نوفمبر 2010 - 9:28 ص | آخر تحديث : السبت 13 نوفمبر 2010 - 9:28 ص

 رواية «النبطى» تحكيها الفتاة المصرية مارية، التى تزوجت تاجرا نبطيا وانتقلت من قريتها الواقعة بأطراف الدلتا الشرقية، إلى منطقة «البترا» بجنوب الأردن، حاليا.. الرواية ثلاثة أقسام (حيوات) مرت بها مارية، وحكت ما شاهدته خلالها.
وفيما يلى الفصل الرابع من «الحيوة الأولى» وهو آخر الفصول التى تنشرها الشروق


الحيوة الأولى
الفصل الرابع أبونا باخُوم

مَرَّ اليومُ الأول من شهر الأفراح، مفعماً بالمسرَّات. أسعدنى حتى توهمتُ أننى عدتُ إلى زمنى البهيج. رقصى المبهج بالأمس هيَّجَ رواكدى، وردَّنى إلىَّ، ودفع عنى الهموم.. لكننى عدتُ بعد يومين إلى حالى قبل خطبتى، عندما عاد الصمتُ ليسكن بيتنا. أمى تقضى النهار كلَّه، وبعضَ الليل، فى حياكة الأقمشة المهداة. وبنيامين يخرج مع الشمس، كلَّ صباح، ليكدح فى الحقول. وأنا متردِّدةٌ بين التوافه، لا شاغل لى إلا أعمالُ البيت القليلة، والشرودُ فى أحلام الزواج الذى ما عاد مستحيلاً.

صباحَ يوم الجمعة دعوتُ أُمَّ نونا لأعرفَ منها شيئاً عن الخاطب العربى، فجاءت عصرَ السبت معتذرةً بأنها كانت بالأمس بالبلدة البيضاء. هى تعملُ معظمَ الأيام هناك. جلسنا على عتبة باب بيتنا، وحين أخبرتها بأننى لم أميِّز خاطبى العربى، قالت وهى تضحك وتلكزنى بكتفها، فيهتزُّ صدرها الثقيل:
يووه يا مارية.. وماذا كنتِ تفعلين فى غرفة الضيوف؟
خجلتُ، فلم أرفع وجهى نحوهم.
ياه، لو أخبرتنى يومَها لعرَّفتُكِ. هو الطويلُ الذى كان يعلِّق فى عنقه، صليبَ العظم المصبوغ. ياااه يا مارية.

 


امتد صمتٌ طويلٌ، مثقلٌ بسكينة الدَّرْبِ وسكونِ الهواء. السبتُ يومُ السكونِ، والاستعدادِ لصخب الأحد. رحَّلَنا الشرودُ عن بعضنا ونحن متجاورتانِ، وأخذتنى الخواطرُ إلى جهاتٍ متفرقة.. بعد حينٍ من الغياب التفتُّ إلى أمِّ نونا، فرأيتُ عينيها الضيقتينِ تنظرانِ نحو بيت عمِّى بشاى، المغلقِ المهجورِ. أحضرتها من شرودها بسؤالها:
ما اسمه؟
مَنْ؟
خاطبى.
آه.. اسمه سلامة، أهله ينادونه سُلُومة.. سُلُومة، الفيلُ أبو زَلُّومة. هئ هئ هئ.
يسمونه الفيل!
لا، لا. أُمازحُكِ يا مارية.
أمُّ نونا تحبُّ المزاح، لأنها قصيرة. ابنتها نونا، لا تكفُّ أيضاً عن المرح والممازحات. القصيراتُ من النسوة مرحاتٌ، لكن القصار من الرجال خبثاء. فى الكَفْر رجالٌ قصار، وهم ماكرون بطبعهم وخبثاء كالثعالب. سألتُ أمَّ نونا عن عُمْرِ الخاطب، فقالت أظنه فى الثلاثين. وعن هيئته، فقالت طويلٌ وجميلٌ.. سكتتْ لحظةً قبل أن تُضيف: ولكنْ فى عينه حَوَلٌ طفيفٌ.
اقشعرَّ جلدُ ذراعى من كلامها الأخير، واشتدتِ القشعريرةُ عندما سألتها عن بلدته، هل هى بعيدة عن هنا؟ فقالت من دون أن تنظر نحوى: يوووه.
فى حجرتنا، قلتُ لأمى بعد الغروب، إن خاطبى كبيرُ السِّنِّ. لم يعجبها الكلام، فعقدتْ حاجبيها وهى تؤكِّد أن الرجال لا يكبرون، مهما امتدَّ بهم العُمر، فالنساءُ يكبرن لأنهن يلدنَ ويُرضعن، فينهدُّ الحوْلُ وتسقُطُ العافية.. قلتُ إنه أحولُ، فقالتْ لا تنظرى فى عينيه.. سكتُّ لحظةً ثم صارحتُها بأننى خائفةٌ من العيش معه فى الصحراء البعيدة، فقالت بحزمٍ: ما كُلُّ هذا الدلالِ يا مارية، هل أتانا خاطبٌ غيره؟ وهل ننتظر حتى تدخلى فى زمرة العوانس التعِسات؟

آلمتنى أمى، ونامت. أولتنى ظهرها من فوق سريرها، وتركتنى مُمدَّدةً على دِكَّتى، أتقلَّب على شوك كلامها. بقيتُ طويلاً من غير نوم، ثم قلتُ فى نفسى لعلها محقة. لا بأس. بعد شهرٍ سأكون زوجةً، وبعد عامٍ أُمًّا، وبعد سنواتٍ سيكون لى بناتٌ كثيرات، وأولادٌ.

ما معنى أن الرجالَ لا يكبرون؟ بطرسُ الجابى كبيرٌ، وبنيامين أخى صغيرٌ. صحيحٌ أن جسمه نحيلٌ، لكنه جميلٌ، وقوىٌّ. حين يحمل أجولة الخزين، أو يدقُّ بالشاكوش المسامير، يشمِّر عن ذراعيه فتظهر قوة كتفيه ويلمعُ منبتُ ذراعيه، ويبدو جلد كتفه الناصع كأنه يلفُّ بداخله حزمةً من حبالٍ قوية. بنيامين قوىٌّ وجميل، لأنه صغير. كنتُ أتمنى زوجاً شاباً، مثله، أو أكبر منه بقليل. بطرسُ الجابى كبيرٌ، لكنه ليس ضعيفاً ولا قبيحاً. فى وجهه حمرةٌ، من مداومة احتساء النبيذ. أخى بنيامين شاحبٌ لكنه أجمل منه، لأنه أصغر منه. كُلُّ صغيرٍ، أجملُ من كلِّ كبير. الكتكوتُ أجملُ من الديك والدجاجة، والمعزاةُ الوليدةُ أجملُ من أمها وأبيها، والشموعُ أجملُ من الشعلات. كيف يا أمى سأكلِّم زوجى، ولا أنظر إلى عينيه؟ هل أخَّر الزمانُ زواجى، ليهبنى فى النهاية زوجاً أحول؟.. حَظِّى من الحياة، حقاً، قليل.

سَحَّتْ دموعى ساخنةً، حتى بلَّلتْ مخدَّتى. بكيتُ صامتةً، فلم تشعر أُمى ببكائى. صرتُ أبكى مثلَها، خِفيةً، بلا صوت. البنتُ تصير كأُمِّها لا محالة. لما غلبنى النومُ، رأيتُ أحلاماً وفيرةً، قويةً كأنها الحقيقة. تقلَّبتُ فى رقدتى كثيراً، حتى أيقظتنى أمى قبل سطوع الشمس. هذا فجرُ الأحد، اليومُ الأبهجُ بين أيام الأسبوع.

بعد استحمامٍ سريعٍ بحجرة الحبوب، ألبستنى أمى بهمةٍ عالية ثوباً جديداً، قماشه بلون السماء. راحتْ من خلفى تشدُّ جوانب الثوب علىَّ، وتهمهم وهى تأخذ علاماتٍ بالإبرة، ثم تخلعه عنى لتخيِّط موضع العلامات. فعلتْ ذلك مرات. لم أنتبه إلى جمال لون الثوب فى غَبَشِ الفجر، لكننى بعدما جدلتُ ضفيرتى وخرجتُ إلى الحوش، وقد أرسلتِ الشمسُ نُورَها، بدا لونه بديعاً. أمى ماهرةٌ فى الحياكة، وهى تحفظ تفاصيل جسمى.

قبل خروجنا إلى الكنيسة، وراءنا بنيامين، مدَّت لى أمى مِرْوَدَ الكُحل، وعقدتْ بطرفِ ضفيرتى أشرطةً من حريرٍ لامع، زرقاء اللون. ثم ألقتْ حول رقبتى قطعةً من حرير الأشرطة اللامع، لأغطى بها رأسى عند دخول الكنيسة.
النسوةُ رأيننى فى الدرب فسعدنَ بى، وحسدننى، حتى حسدتُ نفسى من فرط سعادتى بثوبى البديع، المفصح. صدرى يطلُّ جريئاً من تحت القماش الناعم اللصيق، وذيلُ الثوب يرفُّ حول قدمىَّ حين أمشى، ثم يقترب من فخذىَّ على استحياءٍ، حتى يلتصق ببطنى وصدرى. الصدريةُ اللصيقةُ الضيقةُ، المؤطَّرةُ أطرافها بالشريط الأزرق اللامع، ترفعنى فى الهواء.

 

رقبتى عاريةٌ، وجميلة، ابتهجتُ حين رأيتها فى المرآة قبل خروجى. لو كان هذا الثوب بلا أكمام، لصار ألطفَ وأجمل. المكشوفُ ألطف، لأن الأجسامَ أجملُ من الأقمشة. لن أقول ذلك لأمى ولا لغيرها، لأنهم لن يفهمونى.. قبل خطبتى، كانت أمى تحيكُ ملابسى واسعةً، موصدةَ الصدر تماماً، وكبيرة الأكمام. كأنها كانت تصرُّ على صَرْف عيون أهل الكَفْر، عن المخبوء من مفاتنى. وهى اليوم تسمحُ بما كانت تمنعه، وتحيك لى ثانىَ الأثواب الضيقة الفاتنة.. لو كانت دميانةُ الآن هنا.

لما رأتنى نونا، قالت والنسوةُ تسمع: جميلةٌ وحَقِّ العذراء يا مارية، فى ثوبك ميوعةٌ ودلال، محظوظٌ زوجُك العربى.. غمرنى خجلٌ لم تخفِّف منه ضحكاتُ النسوة، وقُبلاتهن التى انهالت. أمى ابتسمتْ راضيةً، ولما طلبتْ منها نونا، أن تحيك لها ثوباً مثل ثوبى. تخلَّصت أمى من الأمر بقولها إن الأشرطة الحريرية الملونة، نفدت من عندها.. بحنقٍ طفولىٍّ طلبتْ نونا من أمها، أن تأتى لها بأشرطةٍ حريريةٍ من البلدة البيضاء، أو من أىِّ مكان. قبل أن تردَّ عليها أمُّها، قالتِ امرأةُ هيدرا السقَّا، المسحوبة من لسانها: يا أمَّ نونا، أحضرى أيضاً لابنتك بَعْضَ طولٍ، فمثلُ هذا الثوب لا يناسب القصيرات.. انفجرتْ ضَحْكاتُ النسوة، فنظر إليهنَّ الكاهنُ شُنُوتَه شذراً، وزمَّ شفتيه مُغاضباً، فَهَدَأْنَ مكتفياتٍ بالابتسامات وبقايا الضحكات.

القُدَّاسُ تأخَّر، لأن القسَّ والشمامسة لم يصلوا بعدُ من الكَفْر الكبير. منذ رحل أبونا باخوم عن الكَفْر، قبل قرابة عامين، يأتينا أيامَ الآحاد قسوسٌ من الكَفْر الكبير، لإقامة القُدَّاسات، ويأتى معهم شمامسة. لم أعرف سبب رحيل أبونا باخوم عن الكَفْر، لأننى كنت حبيسة البيت وَقْتَ ارتحل، ولما استفسرتُ من الناس ومن الكاهن شُنُوتَه، لم أجد إجابة. أحزننى ذهابه عنا، لأننا كنا نحبه. كان يجمعنا ونحن أطفال قربَ بوابة الكَفْر، ويُلقى علينا عظاتٍ طيبةً، يجعلها على لسان الطيور والحيوانات. ويروى لنا قصصاً مسليةً، عن ابتداء الخلق وسيرة الملوك الطيبين.

علَّمنا أبونا باخوم الدينَ القويم، بحكاياتٍ كان يحكيها عن عصفورةٍ وابنتها: العصفورةُ الابنةُ كانت غاضبة من أخيها العصفور المتشرِّد، فطلبتْ من أمها أن تطرده من الشجرة، فقالت لها أمها لو طردناه فسوف يتشرَّد أكثر، وقد تأكله الحدأةُ لأنه وحيد، فنحزن. ونحن فى النهاية نحبه، وبالحبِّ سوف يعرف الطريقَ القويم، يوماً ما.. العصفورةُ الأمُّ قالتْ لابنتها أيامَ الصوم، وقد رأتها حائرةً: إذا اشتهيتِ مأكولاً أو مشروباً غيرَ صيامىّ، فكُلى واشربى، لأن صومك قد فَسَدَ ولم يعد له داعٍ، فالصومُ يكون عن الاشتهاء، لا عن الأكل والشُّرب.

كنتُ أرى فى أبونا باخوم، أباً وأُمّاً وعمّاً. حين كان الكاهن شُنُوتَه ينهاه عن تعليم البنات، مع الصبيان، كان يبتسم له ولا ينصاع. أبونا باخوم لم تكن له زوجةٌ، مع أن البياضَ لحق لحيته، وكان ينام وحده فى الكنيسة. كنت أحبُّه وأفرح بكلامه حين يقول إنى أذكى أطفال الكَفْر، وأسرعهم تعلُّماً. فى طفولتى كنت أقول إننى حين أكبر، سأتزوج أبونا باخوم، فتضحك أمى وتقول: الرهبانُ لا يتزوَّجون، شُنُوتَه له زوجة لأنه كاهنٌ، لا راهب.. لم أكن أفهم هذا الكلام، وما زلتُ إلى اليوم لا أتفهَّمه. باخوم فى كلامنا معناها صورة الله، وشُنُوتَه تعنى الله يعيش، وتعنى ابن الله.

كانتِ الآحاد أحلى أيامنا، فكلَّما بلغ أحدنا السابعة من عمره، أهداه أبونا باخوم قطعة قماش، فيصير له جلباب جديد. جلبابُ الولد جيبه إلى الداخل، وجيب جلابيب البنات يخاط من الخارج، كيلا يحجبن عن الناس ما يخفين فى جيوبهنَّ.. كنا جميعاً بعد قُدَّاس الأحد، نجتمع بأول الساحة فى الصباح الباكر، ونجلس على الأرض فى دائرةٍ تحوطها البهجة، عند جدار الكنيسة، وقد علَّق عليه أبونا باخوم اللوحة الكبيرة السوداء، التى يكتب عليها الحروف بالطباشير وأحجار الجير. قطعُ الطبشور أوضحُ كتابةً.
كان أبونا باخوم يحب الرسم، فأَحَبَّهُ الأطفال لأنه يحبه. كان فى مرَّةٍ يرسم لنا سحاباً متلاصقاً، ثلاثَ قطعٍ كبار، ويقول إنها العالم الفسيحُ، ونواحى الأرض التى يحوطها البحرُ من كل الجهات. وفى مرَّةٍ أخرى، يرسم لنا على اللوحة السوداء ذراعاً كبيرة، بأعلاها كَفٌّ مفتوح الأصابع، ثم يقلب اللوحة فتصير الذراع بأعلى، ويقول إنها النيلُ، نهرنا الكبير، وباطنُ الكفِّ أرضنا الخضراء الواسعة، والأصابعُ الخمسة هى أنهارٌ تفرَّعت عن النيل. تسأله دميانةُ عن موضع كفرنا، فيشير إلى طرف الإصبع الصغير من الكفِّ المقلوبة، ويقول نحنُ فى مكانٍ صغير هنا، فنضحك كلنا حتى يضحك معنا وهو يقول: حين تكبرون قليلاً، ستعرفون.

كبرتُ ثلاثة أعوامٍ، من دون أن أعرف شيئاً جديداً. حوائطُ البيت لا تعلِّم، ولا صمتُ أمى، ولا المعزاةُ المربوطة بحوش البيت. تعلَّمنا من أبونا باخوم كيف نكتب كلامنا، وكلامَ العرب. كلامُنا أسهل كتابةً. كنا إذا عَلَتِ الشمس فوقنا، ندخل إلى الكنيسة كى نحتمى تحت سقفها، ويدخل معنا أبونا باخوم.. كنا سعداء.

أيامَ كنتُ فى العاشرة من عمرى، أو الحادية عشرة، أرسلتنى أمى إلى الكنيسة بنصف دجاجةٍ مسلوقةٍ، ورغيفين. كان يومَ عيدٍ، ينتهى الصومُ فيه، وفيه أهلُ الكَفْر كلهم يطبخون ويخبزون، فرحين. تمنيتُ ألا أجد الكاهنَ شُنُوتَه فى الكنيسة، كى أُعطى الطعام كلَّه إلى أبونا باخوم، وحده. لكننى لما اقتربتُ من باب الكنيسة، سمعتهما من ورائه يتجادلان. تسمَّعتُ ما كانا يقولان، فلم أفهم كلامهما ولكنى حفظته، وقُلته لأمى فى المساء، فلم تردّ عليه بشىء:

يا أبونا باخوم، قلتُ لك لا يصحُّ هذا. أنت بذلك تشوِّش إيمان الناس.
قد أكون مخطئاً، ولكن ما دخلُ الإيمان بالخشبة؟
لا تقل خشبة، الربُّ صُلِب.. صُلِب.. يعنى على صليب، صليب.
اهدأ يا أبونا شُنُوتَه، اهدأ. لعلَّنى مخطئ. ولكنى قرأت فى كتاب قديم، أن الرومان كانوا يصلبون على عمودٍ خشبى، ليس له شكل الصليب.
اقرأ ما شئت، أو لا تقرأ فيكون أفضل. المهم ألا تذكر مثل هذا الكلام للناس، وإلا سأبلغ عنك الأسقف مينا، وأنت تعرف ما سوف يفعله.
بلغنى أنك أبلغته.. لكن لا بأس.. وأظنُّ أن الأسقف يعرف هذا الأمر جيداً.
لكنه لا يقوله.. لا يقوله لأحد..
دخل أبو دميانة من بوابة الكَفْر، فجلستُ من فورى على عتبة باب الكنيسة. حيَّانى بلطفه المعتاد، ودقَّ بابَ الكنيسة وهو يفتحه. دخل فأعطى لهما بعضاً من العنب الذى كان يحمله، ثم خرج قاصداً بيته. بابُ الكنيسة ظل مفتوحاً، وظللتُ جالسة بموضعى أنتظر خروج الكاهن شُنُوتَه، لأدخل بالطعام.. ساد الصمتُ بينهما، هُنيهةً، فأدركنى الملل. قمتُ لأدخل إليهما بما أحمله، فسمعتُ الكاهن شنوته يقول بغيظٍ كظيم:
وهل بلغ الأسقف، أيضاً، أن بمخلاتك نسخةً من إنجيل يهوذا؟
لحظة يا أبونا شُنُوتَه، أظنُّ أن أحداً عند الباب..
دخلتُ عليهما مضطربةً، فتوقَّف كلامهما، وظلا جالسيْنِ على طرفىْ المصطبة. رحَّب بى أبونا باخوم وهو يُقبل نحوى مبتسماً، ليأخذ منى ما أحمله. بينما أشاح الكاهن شُنُوتَه عنى إلى ناحية المذبح، وأدار وجهه الغاضب. سأله أبونا باخوم وهو يضع الطعام بقربه، أن يأكل معه، فانتفض واقفاً وغمغم وهو يخرج من الكنيسة منفعلاً، كعادته، بما معناه: الأنسبُ لك بيتُك، بيتُك دَيْرُك.. لم أكن أعرف أيامَها، ما هو الديرُ.

تأخَّر القسُّ والقُدَّاسُ، فاضطرب المنتظرون من أهل الكَفْر، وفشا القلقُ بين الرجال. أنا وأمى والنسوةُ، لم نهتم للتأخير، فقد شغلنا ثوبى الجديد، وحكاياتُ الآحاد الصباحية المعتادة، وكَتْمُ الضحكات.

الكاهنُ شُنُوتَه ظَلَّ يدور حولنا، قلقاً، حتى ظهر القسُّ والشمامسةُ وبطرسُ الجابى. لم يأتوا من ناحية الساحة. دخلوا إلى الدرب من الباب الخلفى للقصر، وأقبلوا علينا يتقدَّمهم القسُّ وبطرس الجابى، وقد انهمكا فى همهماتٍ وهموم. دخل الرجالُ إلى الكنيسة خلف الكاهن شُنُوتَه، الغاضب، وبَقِيَتِ النسوةُ بقرب الباب كعادتهنَّ فى القُدَّاسات.

النسوةُ يشاركن فى الصلوات والأدعية واستماع العِظات، من بعيد، ولا يتقدَّمن إلى مذبح الكنيسة، ولو حتى لتنظيفه. كنيسةُ الكَفْر حجرةٌ واحدة، مساحتها مثل حَوْش بيتنا. وهى مسقوفةٌ بجريد النخل، مثل كل بيوت الكَفْر لا قبَّةَ لها، ولا بُرْجَ يعلوه ناقوس. ليس فى نصفها الأول، غير مصاطب من طينٍ معجون بالقش، تمتد من عند الباب على الجانبين، حتى تصل إلى ناحية المذبح.

حيث الفاصل الخشبى الذى يقف وراءه الكاهنُ، ومن خلفه بلاطة كبيرة أخذوها قديماً من البرابى، يسمونها المذبح. لم أشاهد شيئاً يُذبح عليها. على الحوائط صورٌ باهتة للستِّ السيدة مرتا مريم، العذراء، ولربنا يسوع المسيح ورجالٍ آخرين لا أعرفهم. السِّتُّ العذراءُ هى المرأةُ الوحيدة المرسومة فى الكنيسة، والباقون رجال. على يمين الباب وعلى يساره، رسموا على الحائط مرتين، شيخاً أشيبَ يكتب فى أوراقٍ، وبجواره يجلس أسدٌ. الأسدُ قِطٌّ ضخمٌ يعيش فى نواحٍ بعيدة، وهو مفترسٌ.

كادتِ التصاويرُ تختفى وتزول، فما عاد أحدٌ يعيد رسمها، مثلما كان أبونا باخوم يفعل كلَّ عام. يأتى بالألوان فى كيزان نحاسية، وبفُرشاتين صغيرةٍ وكبيرةٍ يمرُّ على كل لونٍ بلونه، حتى تنصع الصور من جديد. كنا نمرح حوله، وكنتُ أقول له إننى أتمنى حين أكبر، أن أرسم الجدران مثلَه. فيبتسم ولا يقول شيئاً.

بعد تلاوة الصلوات وإلقاء العِظات، وقف الكاهنُ شُنُوتَه والقسُّ عند حاجز المذبح، حسبَ المعتاد أيام الآحاد، والتفَّ حولهما الشمامسة. كان بينهم شماسٌ جديد يافعٌ، سِنُّه فى مثل سِنِّى، لم يحوِّل عينيه عنى. وضعوا على الطاولة العالية، نحيلة القوائم، هذين الرغيفين اللذين نسمِّيهما القُربان، وكوبَ الماء الممزوج بالنبيذ.

انتظمنا فى طابور المناولة، تباعاً. أمام الكاهن نفتح أفواهنا، فيضع فيها بأصابعه ذات الأظافر الكبار، زرقاءِ الأطراف، لقمةَ عيشٍ. ثم يمدُّ إلى أفواهنا ملعقةً، فيها مصَّةٌ من ذاك النبيذ المخفَّف.. أعاف التناول من يده لقبح أظافره، لكن أبونا باخوم قال لى قديما، إن لهذه المناولة سِراً خطيراً لا تصحُّ بدونه الديانة. وكان يقول إن هذا الخبزَ لحمُ المسيح، وذاك النبيذ دمه. كنتُ أصدِّق ما يقوله أبونا باخوم، ولكنى لم أفهم يوماً هذا الكلام. أمى تقول إنها تفهمه.
الكاهنُ شُنُوتَه كان فيما سبق، يسمع اعترافات الرجال والنساء. يجلسون أمامه ويحكون خطاياهم، وهو يستمع إليهم بإنصاتٍ. ثم يتلو صلوات ويستغفر لهم، فيغفرُ الرَّبُّ خطيَّتهم. لما جاء الوباءُ قبل خمس سنين، وخطف امرأته وابنتيه، توحَّد. صار يحبس نفسه بالبيت معظمَ النهار، ويجلس طوال الليل وحدَه عند أطراف البرابى. ومع كرِّ الأيام، صار غريب الأحوال والنظرات، فصار الرجالُ وحدهم يعترفون أمامه وينظِّفون له الكنيسة، فالنسوة صرنَ يتحاشينَ الانفراد معه، ويتهرَّبْنَ من عينيه الجاحظتين المحدِّقتين دوماً إلى جهة النهود. نونا كانت تقول، وهى تغمز، إنه مسكينٌ لأن مصيبته فى أهل بيته، عصفتْ بعقله.

لم أعترف للكاهن قطُّ، كنت فى طفولتى أعترفُ لأمى كلَّ مساءٍ، وبعدما حبستنى بالبيت لم يعد عندى ما أعترف به. قبل قرابة عامين، أوشكتُ فى ليلةٍ هادئة أن أحكى لأمى، ما جرى مع الرجل الغريب. وكنتُ سأعترفُ لها بأننى أراه فى أحلامى، وأحسُّ بأنفاسه حين يتولاَّنى الأرقُ.. لكننى فى آخر لحظةٍ أحجمتُ، وحسناً فعلتُ.

جلستُ بين النسوة عند بوابة الكنيسة، نسمع العظة المعتادة. نظرةُ القسِّ قلقةٌ، وكلامه قليل. من دون أن يفيض، ذَكَرَ ما يقوله لنا عادةً أيامَ الآحاد، عن المصير المهول الذى ينتظر الخُطاة يوم الدينونة، وعذابهم الطويل فى الآخرة. والنعيم الذى ينتظرنا نحن المؤمنين، ساكنى السماء بجوار الربِّ، وحدَنا، ما دمنا الطائعين لأوامر الربِّ وأحكام رجال الدين. أما الكُفَّار أتباع الملك، يقصد سكان البلدة البيضاء، فالجحيمُ ينتظرهم فى الآخرة.

رجالُ الكنيسة يكرهون أهل البلدة البيضاء، ويؤكِّدون لنا أننا أصحابُ الدين القويم والسلوك المستقيم، لأننا الفقراء البائسون، خرافُ الربِّ. أما الأغنياء ذوو الوجوه الناعمة كوجوه الخطاة، فهم أصحاب الدنيا الفانية، وأتباع خلقيدونية.. لا أعرف معنى هذه الكلمة، لكنه بالتأكيد شنيعٌ.

يوسف زيدان كاتب وروائي مصري
التعليقات