البخارى - يوسف زيدان - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البخارى

نشر فى : الأحد 12 أبريل 2009 - 5:38 م | آخر تحديث : الأحد 12 أبريل 2009 - 5:38 م

 كان واحد من أصدقائى الأوزبك قد أرسل ابنه ليتعلم فى الأزهر، على أمل أن يصير مثل أبيه (كراماتوف) وزيرا للأوقاف. وأوصى الأب ابنه بأن يمر علىّ فى الإسكندرية، فجاء الشاب لزيارتى ولما سألته عن أحواله بالقاهرة، أجاب بأن كل شىء على ما يرام، لولا ما لاحظه عن جهل المصريين ببلاده! قال: يسألوننى من أين أنت، فإذا قلت من أوزبكستان، ضحكوا ولم يعرفوا هذا البلد (الواقع بقلب آسيا).. أضاف، قلت لأحدهم: كيف لا تعرف أوزبكستان، وفيها العواصم الإسلامية الكبرى (القديمة) مثل سمرقند وطشقند، ومنها جاء الإمام البخارى؟ فردَّ عليه: يا سلام، الإمام البخارى من بوخارست!

والإمام البخارى، صاحب الصحيح، ولد بمدينة بخارى الأوزبكية، وتوفى بقرب سمرقند سنة 256 هجرية، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، كما سنرى بعد قليل. ولكن قبل الكلام عن الإمام البخارى، تجدر الإشارة إلى مسألتين. الأولى أننى أخطأت فى مقالتى السابقة حين أكَّدت بحسم أن (ابن السكيت) صواب اسمه (السكيت) لأن أباه كان مغمورا ولم يشتهر بلقب ما، ثم رأيت عدة مصادر تاريخية معتمدة، تؤكد أن (السكيت) هو لقب أبيه الذى عُرف عنه كثرة صمته، وبالتالى فقد يكون صوابا اسم العلامة اللغوى صاحب كتاب (إصلاح المنطق) هو ابن السكيت، مع أن مصادر تاريخية معتمدة، أيضا، أوردت اسمه ولقبه: يعقوب السكيت! المسألة الثانية، أن الاتجاه الدينى المعاصر (جدا) الذى يُعرف أصحابه بالقرآنيين، وهم الذين ينكرون أن يكون الحديث النبوى مصدرا من مصادر التشريع، مؤكدين أن المصدر الوحيد هو القرآن. هؤلاء القرآنيون سوف تواجههم مشكلة كبرى تتعلق بأمرين، الأول أن التراث الفقهى مؤسس فى أغلبه على الحديث النبوى، مما يؤدى بهم بالضرورة إلى إزاحة الفقه كله! والأمر الثانى أنهم إذا طبقوا هذا المنهج، فسوف تقابلهم بعد حين مشكلةٌ عويصة فى القرآن الكريم ذاته، هى المنسوخ من آياته بآيات أخرى، فهل سيهدرون ساعتها الآيات المنسوخة والمتشابهة، حفاظا على (المحكم) فقط من آى القرآن.. وهذا بالطبع مستحيلٌ قبوله.

نأتى للإمام البخارى (محمد بن إسماعيل) صاحب الصحيح، أى الكتاب المشتمل على الحديث النبوى الصحيح. وقد قيل إن هذا الكتاب، هو ثانى كتاب فى الإسلام بعد القرآن، من حيث الأهمية. وقيل بل صحيح البخارى وصحيح مسلم، هما معا، أهم الكتب بعد القرآن. وما ذاك، إلا لما اشتهر به الإمامان، البخارى ومسلم، من التدقيق فى إسناد الأحاديث وتحقيق رواياتها سابقا عن سابق.

ومع أن مكانة البخارى فى تاريخ الإسلام لا تكاد تدانيها مكانة عالم آخر من علماء الدين، إلا أن ذلك لم يمنع عنه المضايقات التى سرعان ما انقلبت إلى اضطهاد وإبعاد وحلكة حياة ورجاء فى الموت. ففى بلدة نيسابور سأل رجلٌ باردٌ الإمام البخارى: هل القرآن مخلوق؟ وهو سؤال كان وقتذاك خطيرا، لأن (الحكومة الإسلامية) أى الخلافة، كانت ترى أن كلام الله مخلوق، بينما يرى كثير من الفقهاء أن القرآن قديم، لأنه كلام الله، والله قديم.

لم يُجب الإمام البخارى عن سؤال الرجل البارد، وأعرض عنه، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخارى وقال: القرآن كلامُ الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة!

هنا وقعت الواقعة.. يحكى لنا المؤرخ الشهير، الذهبى، أن الإمام البخارى حين قال ذلك: شغب الرجل، وشغب الناس وتفرَّقوا عن الإمام، وقعد البخارى فى منزله.. ثم أخرجوه (طردوه) من نيسابور وحكم بعضهم عليه بالكفر. نعم، الكفر! فعاد الإمام إلى موطن مولده (بخارى) فطرده أميرها من هناك، وكأنه بتعبير معاصر: يسحب منه الجنسية.

خرج الإمام من بخارى إلى بلدة تسمى (بيكند) فهاج الناس هناك، وتشيعوا فى حزبين واحد معه والآخر ضده.. فرحل الإمام قاصدا سمرقند، وعلى مقربة منها حيث تقع قرية صغيرة كان اسمها (خَرْتَنْك) أبلغوه أن الناس فى سمرقند منهم من يصخب عليه ويرفض مجيئه، ومنهم من يرحب به. وكل حزب بما لديهم فرحون، لكنهم فيما بينهم يتعاركون بسببه.. تألم الإمام البخارى، ودعا أمام الناس فى تلك البلدة (الضاحية) التى تبعد قرابة عشرة كيلومترات عن سمرقند، مبتهلا إلى ربه بقوله: اللهم إنى قد ضاقت علىّ الأرضُ بما رحبت، فاقبضنى إليك.

ومرض الإمام، ومات هناك بعدها بأيام، حزينا حسيرا.

يوسف زيدان كاتب وروائي مصري
التعليقات