قاهرة الزمن - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 6:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قاهرة الزمن

نشر فى : الأربعاء 1 ديسمبر 2010 - 11:29 ص | آخر تحديث : الأربعاء 1 ديسمبر 2010 - 11:29 ص

 من خلال سماعة التليفون، جاءنى صوتها المميز، المؤثر منهكا، ضعيفا. عرفت أنها عادت توا من إحدى الدول العربية الشقيقة، وأنها مصابة بالإنفلونزا التى أدرك تماما مدى ما تسببه من متاعب لأنى أحد ضحاياها الدائمين. قررت إرجاء إجراء حوارى معها إلى أن تسترد عافيتها، لكنها، ببساطة، أخطرتنى أنها ستذهب إلى الاستوديو صباحا، فالمرض لا يمنعها من العمل، وبالتالى من الممكن أن نلتقى مساء، فى قاعة أحد فنادق الزمالك.

فى هذا اليوم من شتاء 1992، كان الجو شديد البرودة. الشمس غائبة طوال النهار. زخات المطر تنهمر على أسفلت الطريق. من وراء الزجاج، قبل الموعد بسبع دقائق، توقف تاكسى أمام باب الفندق، نزلت منه سيدة عجوز، منحنية الظهر قليلا، تضع «الإيشارب» على رأسها. حاسبت السائق واتجهت بخطوات بطيئة إلى الداخل. أشار لها النادل نحوى، لم أتبين أنها هى إلا عندما اقتربت منى، ليس بسبب ضعف بصرى، ولكن لأن الزمن حفر عشرات التجاعيد فى وجهها وحول رقبتها. وقفت مهللا لمقدمها. جلست قبالتى، التقطت أنفاسها، وما إن بدأت تتكلم، وترد على أسئلتى حتى انتشر الدفء فى المكان الخالى من الرواد. والأهم أن التجاعيد تلاشت تماما، وبدا لى وجهها نضرا، شفافا، والتمعت عيناها بألق الشباب، واسترد صوتها قوته وحيويته وألوانه. حينها، أدركت أن المرء من الممكن أن يقهر الزمن، طالما هو على قيد الحياة.

هذه السطور تتعلق بأمينة رزق «1910 ــ 2000»، أحد معالم حياتنا الفنية، الثقافية، فى القرن العشرين، فتاريخها الشخصى، فى بعده الجوهرى، هو تاريخ تطور الأداء التمثيلى، سواء فوق خشبة المسرح أو خلال ميكوفون الإذاعة أو على شاشة السينما. وبينما ظهر، قبل أمينة رزق، ومعها، وبعدها، العديد من النجمات، بلغت شهرتهن الآفاق البعيدة، واعتزلن، بحكم السن تارة، وعدم القدرة على ملاحقة التطور تارة، أو لتفضيلهن الحياة الخاصة بعيدة عن الأضواء، أو لإصابتهن نوبة الظن أن الفن حرام، ظلت أمينة رزق، طوال السنين، منجما متجددا من الإبداع المتواصل، تناغم مع إبداعات متوالية من المخرجين، ابتداء من محمد كريم وإبراهيم لاما ويوسف وهبى، حتى بشير الديك وخيرى بشارة وداود عبدالسيد، فكل مخرج يجد فى أمينة رزق ميزة ما، تجعل عمله أشد ثراء وأعمق تأثيرا.

فى لقائى معها، الذى أعتبره من الساعات الجميلة فى حياتى، تحول التاريخ إلى حاضر ينبض بالحياة، جاء الغائبون، بفضل ذاكرة أمينة رزق المنتبهة إلى التفاصيل: روزاليوسف، أول من عطفت على الفتاة الصغيرة، أمينة، وعاملتها بحنو. يوسف وهبى الذى آمن بموهبتها، صلاح أبوسيف الذى منحها أجمل الأدوار. وحين سألتها عما تراه فى نفسها، أجابت بصدق «إنى راضية الضمير. أديت كل ما أسند لى بكل طاقتى. أنا من جيل عاش مخلصا لعمله. قد أكون ظلمت واحدة فقط، هى أمينة رزق، لم أشتر لها، طوال حياتى، فستانا أو شالا أو حذاء، فلا أعطيها إلا بقايا الملابس التى أشتريها لأدوارى. ولكن سرعان ما أقتنع بأنى أرضيها تماما، فهى لا تحب إلا العمل.. والعمل وحده». اللمسة الرقيقة التى حققها مهرجان القاهرة السينمائى بإهداء دورته لأمينة رزق، بمناسبة مرور «100» عام على ميلادها يؤكد أنها، عن جدارة، ستظل باقية فى الوجدان، ولن تتلاشى فى ظلال النسيان.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات