في رواية «شمس بيضاء باردة»: قراءة الكتب ربما هي الخلاص من تشوهات المجتمع - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:51 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في رواية «شمس بيضاء باردة»: قراءة الكتب ربما هي الخلاص من تشوهات المجتمع


نشر في: الثلاثاء 23 أبريل 2019 - 1:51 م | آخر تحديث: الثلاثاء 23 أبريل 2019 - 1:51 م

شاب أردني اسمه "راعي" فقير ومثقف في بيئة تحارب تلك الثقافة، مما يشعره بالغربة عن تلك البيئة الاجتماعية المحافظة والتي تعادي قراءته للكتب، فهو يعمل مدرسا في العاصمة العمانية وتضطره مأساوية الحكاية إلى أن يستأجر غرفه يقدر على أجرتها، قصته في رواية «شمس بيضاء باردة» الصادرة عن دار الآداب ببيروت لعام 2018، للكاتبة الأردنية كفى الزعبي، والتي تنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر".

تطرح الرواية أسئلة جوهرية في أصل الأشياء والعلاقات، حول الإنسان وحضوره في المجتمع، كما تنطلق التساؤلات إلى آفاق الهم الإنساني: الوجود، الأمان، التجذر، الحرية، المواطنة، الدين، لتثير بتلك الأسئلة الفلسفية التي تدور حول الوجودية والذات المتمثلة في الفرد، فالبطل يعيش في واقع سوداوي مليء بالحروب والأزمات النفسية والصراعات الفكرية والسياسية والاقتصادية.

وتطرح الرواية كذلك سؤالا عن رؤية الواقع الأليم من خلال شخصية البطل الرئيسية راعي فهو شخص محطم حزين هش غير اجتماعي يحدثنا قائلاً:"لا أدري إن كان هذا التشاؤم فطرياً، أم أنه ناتج من المأساوية التي طالما واجهتني بها الحياة، أم من هذا الهراء البشري الذي أعيش في لجته؟"

تنطلق الرواية من القرية وتبدأ مع "راعي" البطل الذي يستقبل عمله الجديد في عمان، باحثاً عن سكن رخيص، وما أن يجد ضالته في غرفة كان يسكنها عجوز فضحته رائحة تحليل جسده الميت، تسأله عجوز "هل أنت مستأجر جديد؟" "أجبتها نعم "، لتخبره بقصة الغرفة قريبة الشبه بحياته: "وراحت بعد ذلك تحدثني عن رجل عجوز كان يقيم بهذه الغرفة قبلي. قالت إنه مات فيها قبل شهر، ولولا الرائحة الكريهة التي انبعثت منها بعد أيام من وفاته، لما علم بأمر موته أحد"، استقر به الحال وفي الليلة الأولى يروي: "أغلقت الباب وجلت في الغرفة لا توجد نافذة جدران صماء رمادية شاحبة تنثال منها البرودة والرطوبة مثلما ينثال الصمت من الفراغ".

"راعي" ابن القرية الفقير المثقف وهذه الثقافة لها ضريبة فادحة يتعرض على إثرها للهجوم والتسلط من قبل "الأب الجاهل" فهو يكره أن يصرف ابنه المال على الكتب ويضيع وقته هباء في قراءتها ظناً منه بأنها هي السبب في زندقته وفشلة المستمر، ابوه الجاهل والبخيل الذي يريد أن يرسم مسيرة حياة كاملة لابنه أن يكون له يتزوج من امرأة والإنجاب منها وأن يعمل كثور في ساقية ما! يكسب منها مالاً يصرفه على تلك العائلة، فهو يعيش كأي شخص ينجب بشفرات بيولوجية ويتصرف وفق غرائز ورغبات حيوانية. ويبحث راعي في الكتب عن ضالته:"ثم أمضي قاصداً المكتبة في جبل عمان. في القراءة كنت أجد ضالتي، وألبي رغبتي في النجاة من وعي متشائم للعالم، لا ينفك ينغزني كسوسة دؤوبة"

السريالية المروية في تلك القصة من حياة البطل والذي وصل للتو إلى العاصمة، فيها يبعد عن قلق الريف وضيق الأفق وسلطوية أبوة وهذا الجهل المحدق في تراكيب الشخصيات فهو الأن بعيد كل البعد عن قريته بعيد حتى عن قناعتهم وعن هذا الزيف الديني الذي تمارسه أسرته، فأبوة المتسلط المدعي التزاما دينيا لا نعرف أصلا ما هذا النوع من التدين، وفي محكم التنزيل العزيز الذي أنزله الله على النبي صلى الله عليه وسلم كانت هذه الكلمة "اقرأ" فهذه إشارة تحفز الذهن على الاطلاع والقراءة، وهذا يدلنا على سلطوية يزينها الجهل المجحف من قبل الأب على ابنه بسبب تمرده عليه.

فهذا الشاب اليائس المتشائم تصوره لنا الكاتبة كلوحة سريالية أقرب مأساوية لحياة جيل كامل متمثلاً في شخص راعي، ضحية والد مريض ومجتمع متألم، ويرجع هذا الإحساس لحادثة حدثت له في صباه، ففي قريته كانت تزورهم أم عائشة قريبتهم التي لا يحبذ أبوه زيارتها والمكوث لساعات كثيرة لربما في نهاية المطاف يصل الأمر بالزوجة الإصرار على المبيت، فهذا الوالد البخيل يوبخ الزوجة ويتوعدها لو تكرر مثل هذا الأمر.

التصور الذي ركزت عليه الكاتبة كشف هذا الوالد المدعي تديناً الذي يلجأ للتحفظ كوسيلة أو ستارة يحقق بها ما يريد، وعلى الرغم من أن الكاتبة ركزت على عنصر السلطة الذكورية متمثلة في الأب وأن الأم نادرا ما تكون ظاهرة فهذه نقطة مهمة خاصة إنها أتت من لمسة أنسوية تنصر المرأة في مجتمعاً عربيا معروف تحفظه في هذه الجزئيات، الأب الذي لا يهتم حتى بركن مهم في الإسلام وهو صلة الرحم، فهو لا يحسن ضيافتهم حتى، مما أكد لنا جحود طبقات معينة من المجتمع تعاني هذا المرض الخبيث الذي يفتك بالمجتمعات ويجعل الجيل القادم يعاني الكبت النفسي والجنسي أيضاً وهذا ما حدث لـ "راعي" الذي وقع فريسة الانفصام عن هذا العالم المجاور.

وتمر بنا الرواية بعد صدام سيارة بأم عائشة أودت بروحها، فأصبحت هذه البنت الساذجة البلهاء، يتيمة، فطمع الوالد ذهب إلى ضيافتها في بيته إلى أن يتثنى له الاستيلاء على أرضها التي ورثتها عن أمها وأبيها، وهذه الظاهرة التي تعبر عنها الروائية عن الحريات، إضافة إلى تفكك العلاقات الأسرية وما يسود الوضع الاجتماعي في بعض البلدان العربية من قمع للحريات وتحريم أدني ملذات الحياة المرهونة بشيء من الحرية، حرية الحركة والتعبير والاختيار وبخاصة اختيار شريك الحياة، وهذا ما كان على النقيض، فالأب يفتك بالابن ولا يقوم بإحياء مثل هذا النوع من الوعي في ذاته فأصبح يبحث عن علل في الكتب.

عائشة التي تصف تصرفاتها أم راعي قائلة هي فتاه "على الله"، يمتزج الحكي في وصف الحالة التي تميز بها عمال القرية، فالراوي يتمثل في راعي الذي يحكي تلك الحكاية المأساوية ولكن ما قبل ذلك في السابعة عشر من عمره يقرر أن يعمل عملاً يكسب منه بعض المال، ليشتري بهذا المال الكتب ولا شيء سوى الكتب، فيحكي قائلاً: "لكنني بعد عدة أيام من بدء العمل أدركت أن السير نحو الأحلام يشبه مشي من يستعين ببوصلة، تشير إلى الجهة التي ينشدها المرء، إنما من دون أن تخبره بشيء عن ماهية الطريق" "إنها المرة الأولى في حياتي التي أمارس فيها عملاً منتجاً".

وفي يوم عمل شاق يتصبب العمال عرقاً يصف راعي لنا حالته "لا شيء يخفف عني مشقة العمل سوى طرافة العمال"، وما بين دردشة العمال يتعرف الصبى ابن السابعة عشر على حكايات جنسية يفتخر فيها كل عامل بيومه، ويروي لنا على لسان المقاول "لكن المقاول ناداني وسألني: كم عمرك؟ فقلت: سبعة عشر عاماً، فضحك قائلاً: إنك رجل إذن، ولا بد من أنك تفعلها! فأحمر وجهي خجلاً وانعقد لساني، واستمر قائلا إن المعرفة النظرية ضرورية لي" فهذه الصورة التي اخجلت ملامح راعي سببها الأب وسواء كان التناقض بلغ تمامه بينه وبين ابيه، إلا أن كل منهما سيقع في شرك الخطيئة، هذا الكبت الذي يجعل من الابن أبله حين تدخل عليه عائشة ويتورط معها في علاقة جنسية.

وتتكرر علاقة عائشة وراعي، مرة بعد مرة، ويكون هذا بمثابة لعنة فاضحة يعرف من في البيت بالقصة التي تؤرق حياته، أبوه نزل عليه ضرباً والأم تنعته تضربه بالكلمات، قائله: "لقد استوطأت حائطها أيها السافل. أبوك سرق مالها وأنت هتكت عرضها. يا ويلنا من الله ويا ولينا من الفضيحة"، ورغم هذا راح أبوه يبحث ليزوجها بأبله ساذج مثلها، وبعصبية يبحث عن أي سبب ليبرحها ضرباً حتى يتسبب في إسقاط الجنين، لتموت عائشة التي كانت سببا في تجرعه الجرعة الأولى للجنس، هذا الإحساس القاتل الذي يشعره دائماً أنها ماتت بسببه، فتخلى عنها وعن ابنه فكان كمتتالية ونسخة أخرى من أبيه تضاف إلى هذا المجتمع البائس.

امتلأ قلب راعي، بالكره الشديد لأبيه متمنياً له أن يموت قائلاً: "سأقتله". فهو المتألم الذي أصابه التشاؤم واليأس، إلا أن بحور المعرفة التي غرق فيها لم تنقذه تلك المرة برغم ذلك لم تنفعه ثقافته فخانها حين عرضت له عائشة نفسها ولم يكبحها ويخرجها خارج غرفته أو فاراً منها خارج غرفته.

تسرد الكاتبة مرتكزة على قمع الأب وظلمه، ومن منطلق الجنس كشهوة حيوانية، تترك "راعي" ليحكي عن نفسه وعن هذا السواد الذي أودى به إلى بحور التيه وظلمات وجنون أصبح يعيش فيه، فيحكي لنا كأنفس متعددة ليس كنفس واحدة فهو يعكس لنا واقع المجتمع من خلال تجربته المريرة.

والواقف على عتبات الحكاية سيجد أن الكتب في الرواية لم تفتح كلها، فأي وقت مناسب لفتح هذه الكتب التي تملأها الحكايات والأفكار لماذا هي حبيسة التعنت والتحجر، هل أصبحت الثقافة جريمة؟

ويأتي الجزء الآخر من الرواية عن أحمد صديقه الذي يعمل معه في المدرسة، أحمد يشرب معه الخمر ولكنه سكره هذا لا يكون سبب في أن يترك الصلاة، والردود تنثال في شكل تنظير بينه وبين راعي، فأحمد ضحية كذلك لمجتمع أغلق كل شيء على هذا المحب المولع بزوجته. مجتمع يشهد انتحار جمعي للشباب.

البديهي أن الرواية الروسية تحتل مكانة فريدة وبارزة في تراث الأدب العالمي، فما زالت الروايات الروسية الكلاسيكية حتى يومنا هذا تثير شعور الكثيرين عند قراءة هذا النوع من الادب، حاضرة في ذاكرة القارئ، تتأثر الكاتبة والروائية الأردنية كفى الزعبي بمؤلفات روسية أمثال تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، فهذا التأثر أنتج لنا رواية جدلية عن مجتمع يعاني وسلطة سياسية لا تنظر لبحور هذا المجتمع المتمثل في راعي وأحمد، وعائشة وغيرهم، وتأتي الرواية بثوب فلسفي قريب للفلسفة الوجودية في الأدب الروسي.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك