صالح سليم - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 9:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صالح سليم

نشر فى : الأحد 31 يناير 2010 - 10:03 ص | آخر تحديث : الأحد 31 يناير 2010 - 10:03 ص

 لا يعرف صالح سليم تاريخ ميلاده بالضبط. فعندما سألته عن عمره قال لى: أنا تقريبا فى الخمسين من العمر. لكنه بدا لى بأسنانه السوداء وجلده المتغضن فى الستين من عمره. قصير القامة، ناشف كعود حطب محمص. أسمر بلون الصخور الجرانيتية المنتشرة فى جبال جنوب سيناء، بغمازتين طوليتين تقسمان وجنتيه إلى نصفين. أما أوضح ما يميزه فعينيه الصغيرتين الساكنتين عن أى تعبير، فالدعة يمكنها أيضا أن تميز صاحبها. كان يرتدى جلابية رمادية وتحتها صديرى صوف رمادى وسروال صوفى، أما العقال فكان لونه أبيض بخطوط زرقاء بلون السماء.

يعمل صالح سليم كلما تيسر مرشدا يرافق الأفواج السياحية فى أودية التفاحة والسليبات والشق والزواتين وأخدود الديب، وكلها أودية قريبة من جبال سانت كاترين وموسى وأبوجيفة والربة. وفى المساءات التى يرزقه الله بها يصعد جبل موسى مع السياح لينعموا بمنظر شروق الشمس ويتفكروا فى الوصايا العشر. وفى باقى الأيام يعمل فى الفاعل أو فى البناء أو يعمل مزارعا. هو يعمل دائما فى أى نشاط مهنى يهبط عليه طالما كان هذا العمل لا يتعارض مع القيم الأخلاقية. فهو يخشى كثيرا النار.

صالح من قبيلة الجبلية من بدو سيناء. وهى القبيلة التى تعيش حول دير سانت كاترين لحمايته منذ قرون طويلة. أقدم ذكرياته رحلة مع والديه إلى السويس عام1967 لزيارة عمه وخاله لم يكن وقتها قد أتم عامه العاشر. لا يتذكر أى شىء قبل هذه الرحلة، وكأن ذكرياتها قد أطبقت على عقله الواعى بفكيها المرعبين فمسحت كل ما هو سابق عنها. استمرت هذه الرحلة قرابة الثلاثة أشهر من شهر يناير إلى شهر مارس وهى فترة الشتاء القاسية فى كاترين والتى يستحيل معها الزراعة، جابوا خلالها سويا مدينة السويس من شرقها إلى غربها والتهموا أطنان من السمك بنكهة السويس الشهيرة.

وعندما حان وقت الرحيل توسلت زوجة العم أن يبقى معها «صالح» حتى بداية الصيف عندما يعودون جميعا إلى كاترين. وافقت الأم على مضض بعد موافقة الأب. ومرت ثلاثة أشهر أخرى من السعادة والهناء فى اللعب فى شوارع السويس. واقترب شهر يونيو، وبدأوا الاستعداد للرحيل. واتفق الجميع على الرحيل يوم الجمعة 2 يونيو. ولكن يقرر العم تأجيل السفر لمدة ثلاثة أيام. وفى 5 يونيو وفى الساعة السابعة وخمسة وأربعين صباحا تقصف القوات الجوية الإسرائيلية المطارات العسكرية المصرية، ويُمنع صالح سليم من رؤية والديه.

انهارت فجأة دنياه وأصبحت القناة الضيقة من أمامه تفصل بين عالمين لا يمكن لأحدها أن يصل إلى الآخر. أصبح يقف بالساعات أمام القناة يطل من بعيد على أرضه فى الناحية الأخرى ويبكى. بعدها بشهور قليلة التحق صالح بالعمل مع الحاج «على أبوسلمى»، وهو صعيدى يعمل فى بيع المزروعات. يشترى من الفلاحين محاصيلهم على الأرض ويبيعها فى الأسواق. وعمل صالح سليم لديه فى «حش» البرسيم ونقله على عربات كارو إلى مخزن الحاج على. سارت الحياة فى دروبها المعتادة وصالح يحلم بلقاء والدته إلى أن جاء يوم لم تغرب شمسه. كان عائدا بعربة الكارو محملة بالبرسيم ومعه ابنة الحاج على التى تكبره بخمسة أعوام وفجأة ضج جرس الإنذار بالصراخ فأسرعوا إلى مخبأ قريب وشاهدوا عددا كبيرا من الجنود المصريين يدخلون إلى المخبأ. وقف صالح وزميلته قرب مدخل المخبأ وفجأة هوت من السماء ألسنة عزرائيل تقطف أرواح من حوله. لم تكتب له الشهادة حين تمناها، ولكنه رأى بعينيه أشلاء الجثث تتطاير من حوله وشاهد هرولة الجميع بعد انتهاء الغارة داخل المخبأ لإنقاذ من يمكن إنقاذه. أخرج معهم أطراف جنود وجنود بلا أطراف. عندما أوصل زميلته إلى والدها كان قد أصابها داء الخرس، الذى لازمها لفترة طويلة، أما هو فقد صاحبته كوابيس منعته من النوم حتى عاد إلى حضن والدته. كان ذلك حين استطاع والده بعد حرب 1973 الوصول إلى السويس، كما استطاع رغم دهاليز البيروقراطية المصرية أن يعود به إلى كاترين. استقبله الجنود الإسرائيليون فى الناحية الشرقية من قناة السويس وعندما رأوا سنه المتقدم رفضوا فى البداية أن يمر وصمموا أن يعود أدراجه من حيث أتى. بكى كما لم يبكى من قبل كما لو كان يعرف أن كوابيسه سوف تنتهى ببلوغه حضن أمه. وافقوا فى النهاية ووضعوه مع الأب فى سيارة لا نوافذ لها حتى وصلا إلى كاترين. أسكنته أمه داخلها لفترة لا يتذكر طولها. ولكنه ما زال يتذكر رائحتها. وبعد أن أخرجته إلى العالم مرة أخرى شاهد لأول مرة معنى الاحتلال. كل حركة مراقبة. الطائرات تحلق فوقهم بصفة دائمة. مطار هليكوبتر فوق قمة كاترين ووحدة للمراقبة.

ورغم كراهيته اللا نهائية للمحتل اضطر أن يعمل معهم. عمل مع مقاول إسرائيلى فى أعمال البناء. كان والده يقول له: ما العمل؟ لابد أن نعيش.

(استكمال المقال الأسبوع المقبل).

خالد الخميسي  كاتب مصري