جريمة تصحير مصر - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 2:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جريمة تصحير مصر

نشر فى : الخميس 30 سبتمبر 2010 - 9:29 ص | آخر تحديث : الخميس 30 سبتمبر 2010 - 9:29 ص

 مساء الأحد الماضى كنت مهتما بمعرفة ما تمخضت عنه اللجنة التى شكلها مجلس الوزراء لحل ما يسمّى مشكلة الحكم القضائى ببطلان عقد «مدينتى»، وتوقفت عند برنامج «مصر النهارده» الذى استضاف فيه المذيع تامر أمين وزيرى الإسكان والمالية، وكان واضحا أن الوزيرين فى حالة طرب لما توصلت إليه اللجنة الحكومية المطعون فى حيادها، ووصل بهما الطرب إلى درجة من الخفة كانت كاشفة بسفور عن مهزلة الهزل الذى يحكمنا به هؤلاء الوزراء وأضرابهم، وفاضحة لمحتوى تفكيرهم الذى يشكل خطورة حقيقية على هذه الأمة.

بعد أن تبادل الوزيران تبرير ما توصلت إليه اللجنة الحكومية والمتلخص فى إعادة بيع أرض مدينتى لشركة طلعت مصطفى بالسعر والشروط نفسها التى كانت فى العقد الذى أبطلته المحكمة الإدارية العليا، وساقوا فى إيضاحاتهم أمثلة هزلية مثل نقل ما فى الكوب إلى زجاجة أو من كوب مكشوف إلى كوب بغطاء على حد تعبير وزير المالية، انتقل الوزيران لتقطيع وتجريح المهندس حمدى الفخرانى رافع دعوى بطلان عقد مدينتى، فكان على لسانيهما «فاضى ومش لاقى حاجة يعملها»، ولا يعرف ما يتكلم عنه، وأخيرا صدر عليه حكم أحدهما بأنه «دا واحد بيخرب» فيما يشبه التحريض على مواطن لجأ للقضاء، فأنصفه القضاء، ومن ثم لم تلهم الوزيرين أدمغتهما اللامعة إلى كونهما بهذا التجريح للمتقاضى إنما يُجرِّحون القضاء العادل الذى أصدر الحكم لصالحه، بل لصالح الأمة.

أمّا ما هو أبشع من هذا الانزلاق الطروب للوزيرين نحو سخافة التسفيه، فكان هذه الوصلة المبتذلة عن بيع أراضى الدولة التى قدمها الوزيران وتألق فيها وزير الإسكان كاشفا عن نفوذ يَجُبُّ أسطورة نفوذ بطرس غالى الذى كان المغربى يُسكته فيسكت، ليلعلع المغربى، ويقود هذه الوصلة بثقة مبالغ فيها توحى بدعم مَن لا علم لنا به، ولا علم أو معرفة أو بعد نظر فيه!

وفى سياق تسفيه تقدير ثمن أرض مدينتى بمئات المليارات كما قال المهندس حمدى الفخرانى وغيره، تبارى الوزيران فى الزعم بأنها كانت أرضا صحراء لا تساوى شيئا قبل أن تحل عليها بركة هشام طلعت مصطفى، ثم تمطَّى وزير الإسكان وأعلن تحديه لمن يُحضِر مستثمرا يشترى الأرض بأقل من المليارات التى تحدث عنها من تحدثوا، وحتى لا تختلط الأمور ومن باب التحوُّط، تواشج الوزيران فى التأكيد عن أن الحديث ليس عن أرض مدينتى، فهذه «خلاص» «خلصت» على حد تعبير أحدهما وموافقة الآخر، ولكن الحديث عن أرض تشبهها. واستأسد وزير الإسكان الذى يبدو ناعما وتتناقض نعومته مع ما أبداه من سطوة فى هذه الحلقة، فأعلن «وعندى حتة أرض مساحتها 11 ألف فدان وموقعها أحسن من موقع مدينتى لأنه أقرب للقاهرة ومستعد أبيعها للى يدفع».. وافتتح الوزير مزاد «حتة الأرض» وقال: أنا أبيع الآن لمن يشترى المتر ب«عشرة»، «لأ بلاش عشرة. خمسة. أربعة. لأ. بألف جنيه المتر». وظاط الوزيران واستخفتهما الخفة فى هذه الوصلة الهازلة الضاحكة ضحكا يثير السخط والقرف، فوعدا المذيع المُكشِّر عادة فى وجه ضيوفه الذى كان ضاحكا هذه المرة، بنسبة من حصيلة البيع!

من أنت أيها «الوزير» لتقول عن قطعة من أرض مصر مساحتها تبلغ ضعف مدينة زاهرة كمدينة المنصورة، مدينتى، وليست مدينتكم، والبالغ مساحتها 24 كيلومترا مربعا يعيش فيها أكثر من مليون إنسان، تقول: «أنا عندى حتة أرض»، ومن أنت لتبيع «على الترابيزة» وعلى الهوا، هذه «الحتة»، ومن قال لك إن هذه الأرض لا تساوى شيئا لتتعامل معها بهذه الخفة وهذا الهزل الهزيل؟ كانت هذه التساؤلات الساخطة تضطرم داخلى مساء الأحد الماضى، لكننى الآن سأجيب بما يكشف حقيقة الهزل الذى تتكون منه عقول وضعتها الصدفة والغرابة فى موقع السلطة لتستخف بأرض مصر، وتستخف بعقولنا، وتدمر حاضرنا ومستقبل أولادنا بكل هذه الخفة السمجة وبهذه السطحية التى تتوهم فى نفسها منتهى العلم!

هذه الأرض الصحراوية أيها الوزير تساوى الكثير والكثير جدا، لكن ليس بمقاييس عقل سماسرة الأرض ومقاولى بناء الغفلة واستثمار الجلا جلا الذى يستحوز على أرض بالمجان أو ما يشبه المجان وبمجرد تأشيرة من وزير تحوم حوله الشبهات، ثم بضمان هذه الأرض يحصل على القروض من بنوكنا، أى من جيوبنا، وبهوجة إعلانات وحملة تسويق يتدفق الحاجزون الأبرياء ويدفعون مدخرات عمرهم، فيبنى الحاوى قليلا ويبيع كثيرا، وبالكثير يكمل فكأنه يكسب من الهواء الفاسد أرباحا طائلة لا غرابة أن تذهب بعقول السفاهة إلى حد التورط فى القتل!

هذه الأرض أيها الوزير هى أغلى ما تكون ليس بقيمتها المعنوية كتراب وطنى فقط، لكن أيضا بقيمتها المادية فى منظور من يراها بعين البصيرة والعلم وبُعد النظر الاستراتيجى ومفهوم التنمية الحقيقية الشاملة والمستدامة، لا من يراها ببصر حسير لا يكاد يرى إلا ما تحت قدميه من ربح مريب عاجل، ومحسوبية عمياء، وفساد فاحت روائحه حتى من وزراء يتربحون من مواقعهم على حساب الأمة فى عقد صفقات فاسدة لشركاتهم وشركات الأقارب والمحاسيب، ويستغلون المال العام فيما يُخجِل ويُشين كما فى نهب مشروع للعلاج على نفقة الدولة المقرر أصلا لغير القادرين لا ثراة المستوزرين.

 
يؤسفنى أن أقارن فساد منطق مسئولينا الضار بأمتنا، بمنطق عدونا الحريص على تقوية كيانه وإضعاف كياننا، فقد قال إلياهو بن أليسار أول سفير لإسرائيل فى مصر «إن استعادة التاريخ لا تتم إلا من خلال الضغط الشديد على الجغرافيا»، ولم يكن التوسع فى احتلال وسرقة الأرض العربية ومياهها هو الشكل الوحيد من هذا الضغط الشديد على الجغرافيا، بل كان منطق التنمية متعددة الأطياف لهذه الأرض هو سبيل إسرائيل لتحصين ذاتها العدوانية، وكانت الزراعة قرينة الإعمار فى قلب هذه التنمية فى أراض صحراوية كالتى يرى وزراؤنا أنها «أرض مرمية»، ولعل أرض صحراء النقب تكون نموذجا يوضح المقصود، وقد قال بن جوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيونى «النقب منطقة خالية ومعزولة، وباستطاعتنا تحويله إلى منطقة مأهولة بالمستوطنات اليهودية». ولم تكن رؤية بن جوريون على نمط رؤية مقاولينا الوزراء، مجرد بناء مدن أسمنتية ومسطحات نجيل وشجر زينة وبحيرات صناعية كالمدينة إياها «العالمية على أرض مصرية»، فمدن مقاولينا ومتنفذينا ما هى إلا مدن مستنزِفة للطاقة ومهدرة للمياه وغير منتجة وقابلة للتحول إلى مدن أشباح مع أول أزمة للطاقة وأول عسر أقتصادى يلوح فى مصر، فهى بغير تنمية حية وحيوية موازية للإعمار الجامد أو الميت على عكس ما فعلته إسرائيل البغيضة ويقودنا لسخط مُضاعف على هؤلاء المقاولين المستوزرين لدينا لأنهم يقصرون فيما لم يقصر فيه عدونا، فكأنهم يعملون معه بلا وعى لمضاعفة ضعفنا.

لقد كانت الكيبوتسات الإسرائيلية، أى التجمعات السكانية التعاونية القائمة على الزراعة كأولوية، هى الأساس الاقتصادى والاجتماعى والسياسى للكيان الصهيونى منذ عام 1909 تاريخ إنشاء أول كيبوتس صهيونى، وبموازتها كانت هناك أيضا حركة «الموشاف» أى المستعمرات التعاونية التى نشاطها الأساس هو الزراعة، وكانا شريان مشروع «نقب النمو» الذى موله صندوق بناء إسرائيل «كاكال» مع وزارة الزراعة الإسرائيلية والوكالة الصهيونية، وانصب على تنمية القطاع القروى فى النقب بإقامة مزارع متفرقة تستهدف الإنتاج الزراعى والسياحى، فاشتمل مشروع «نمو النقب» الإسرائيلى على حقول الدفيئات لإنتاج الخضر والفواكه الأرضية كالطماطم والفراولة والبطاطس مع منْح كل وحدة زراعية مخزن تبريد ومعمل تغليف لتسويق منتجاتها، كما اهتموا بزراعة الحمضيات على مياه الصرف المُعاد معالجتها، وكانت هناك مسامك عبارة عن برك فى وادى ومرتفعات النقب لتربية الأسماك، مع أغراس زيتون مروية بمياه مالحة ومراعٍ للنوق وغرف ضيافة لاستقبال رواد سياحة الصحراء!

بمثل هذه الرؤية تصير الأرض الصحراوية كنزا، صحيح أنها فى الحالة الإسرائيلية ليست إلا تدعيما لمملكة الشر، لكنها يمكن أن تكون بالكيفية نفسها قوة لمملكة الخير، وهناك نموذج مصرى لتنمية البيئة الصحراوية تم إجهاضه بتآمرات خبيثة وخسيسة وسيأتى وقت لحديث موسع عنه، أما الآن فسأكتفى بذكر نموذج عربى خيِّر أنجزه المغفور له الشيخ زايد آل نهيان وكان لى الحظ أيام كنت محررا علميا لمجلة العربى أن أتابع هذا الإنجاز على الأرض، فقد حوّلت الفطرة السوية للشيخ زايد رمال الصحراء الإماراتية، خاصة فى أبوظبى، إلى حدائق وجنان بتقنية غاية فى عبقرية البساطة عاينتها بنفسى، فكان يمهد الكثبان الرملية ثم يكسوها بطبقة بسيطة من الطمى، ويغرس ويروى ويرعى ويحصد، فتحولت الإمارات الواقفة على حدود صحراء الربع الخالى الأشد قسوة وتصحرا من صحراواتنا القريبة من الوادى والمتميزة بكونها سهلية وصالحة للزراعة، تحولت الإمارات إلى واحات بها 40 مليون نخلة منها 33 مليونا فى أبوظبى وحدها، وبساتين تصدر الخضراوات والزهور والفواكه إلى أوروبا وأمريكا واستراليا واليابان.

حقَّقت إمارات الشيخ زايد الصحراوية هذا وهى لا نيل عندها ولا أعماق بعيدة من رواسب الطمى التى لم نكف عن تجريفها وتبويرها وإحراقها ليتربّح ناهبو أرض الدولة وتجار الإعمار قصير النظر وفقير الرؤية الذى لا يرى فى أرض مدينتى قبل أن تشرق عليها شمس إبراهيم سليمان وهشام طلعت مصطفى إلا صحراء جرداء بلا قيمة، و«حِتَتْ أرض مرمية» «مش لاقية حد يشتريها»، فتُمنَح بالأمر المباشر، أو بكلمة، أو بمزاد على الهواء وعلى الترابيزة.. ممن لا يملك لمن لا يستحق.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .