باشْبَوْزَقة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 7:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

باشْبَوْزَقة

نشر فى : الخميس 29 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 29 مارس 2012 - 8:00 ص

تابعت على امتداد يومى الأحد والاثنين قبل أن أشرع فى كتابة مقالتى هذه تطورات ما أسمته الصحافة «حافة الصدام بين الإخوان والعسكر»، وكان أول ما استوقفنى تبعا لتعاقب التطورات زمنيا هو البيان «شديد اللهجة» للإخوان الذى قيل إنه صدر فى أعقاب اجتماع بين الإخوان والمجلس العسكرى انتهى إلى «طريق مسدود» رفض فيه المجلس العسكرى الاستجابة لمطلب الاخوان بإقالة الحكومة، وعبَّر عن غضبه من الطريقة التى تم بها تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور وتردد أن أحد أعضاء المجلس العسكرى ذكَّر قيادات الجماعة بأن مجلس الشعب مطعون فى دستوريته، وهو ما يطعن بدوره فى تشكيل اللجنة التأسيسية، مما اعتبره الإخوان تهديدا ردوا عليه فى بيانهم بتحذير من «إعادة إنتاج الثورة مرة أخرى» وهى عبارة أشعرتنى بالمرارة أن تصدر من الإخوان فى السياق الذى صدرت فيه، ونقلتنى ذهنيا إلى ليلة من أوائل صيف عام 1453 حيث كانت تدور رحى معركة فتح القسطنطينية، والتى وجدتنى أتوقف أمام لمحة محددة منها.. بيزنطة أو القسطنطينية، عاصمة دولة الروم الشرقية، التى صارت استانبول بعد فتحها، لم تكن مجرد مدينة تطل على خليج البوسفور شرقا وبحر مرمرة جنوبا، بل كانت حصنا مرتفعا منيعا محاطا بأسوار عالية حولها أسوار أعلى، حاصرتها جحافل جيش السلطان محمد الثانى فى الواحدة صباحا، وعندما أعطى السلطان إشارة الهجوم، انقض مائة ألف من البشر بالأسلحة والسلالم والحبال والكلاليب على الأسوار الخارجية للمدينة الحصن، واتحدت أصوات الطبول الكبيرة والصنوج والمزامير بدويها الحاد مع الصرخات البشرية ورعود المدافع لتشكل إعصارا واحدا يتهيأ للاجتياح. وفى البداية كان يُزَج فى المقدمة بالقوات غير المدربة، وهى قوات «الباشبُوزُق» التى كانت أجسادهم نصف العارية لا تفيد فى خطة هجوم السلطان إلا من حيث كونها مصدات إعاقة، يُقصَد بها إرهاق العدو وإضعافه قبل هجوم نواة القوة العاصفة فى جيش السلطان العثمانى محمد الثانى.

 

يصف الكاتب «ستيفان زفايج» فى كتابه «ساعات القدر فى تاريخ البشرية» ماكان يجرى للباشبوزوق فى هذه المعركة قائلا: «بمائة سلم يعدو فى الظلام اندفع أولئك الذين يُقذَف بهم إلى الأمام نحو الأسوار، يتسلقون نحو السور المسنن، فيُطرَحون نحو الأسفل، ويعودون إلى الاقتحام العاصف من جديد، ومن جديد دائما، إذ لا يوجد لديهم طريق عودة، فوراءهم، وهم المادة البشرية غير ذات القيمة، المخصصة لمجرد التضحية، توجد نواة القوة، التى ما تفتأ تدفع بهم إلى الأمام، مرة بعد مرة، إلى الموت المحقق تقريبا، فعتادهم الذى لم يكن يزيد فى معظمه عن السهام والحجارة، لم يكن ينال من الدروع والشباك المعدنية للمحاربين البيزنطيين المدافعين عن الأسوار، لكن خطر الباشبوزوق الحقيقى كما قدره السلطان، أن يستنفدوا طاقة البيزنطيين وهم يتقافزون بعتادهم الثقيل من مكان إلى مكان لصد هجوم موجات الباشبوزوق المنذورين لموت محقق، تمهيدا لأن تتقدم فوق جثامينهم النازفة قوة الزحف الصاعق للأناضوليين المحاربين المنظَّمين ذوى التدريب والعتاد الجيدين».

 

أتذكر أننى عندما قرأت هذا الفصل من فصول ملحمة فتح القسطنطينية تراجع إعجابى بالسلطان محمد الفاتح، لأننى لا أتصور مهما كانت الغاية أن يُزج ببشر شبه عزل فى محرقة موت حتمى لمجرد أن ينهكوا خصما ليسهلوا الانقضاض عليه بقوات النخبة، وعندما غصت فى بعض من سيرة ذلك السلطان الذى كان قائدا عسكريا فذا، لم أحبه أبدا كإنسان، فهو جهنمى التناقضات، يجمع بين التدين والقسوة، وحرارة العاطفة والخبث، والثقافة والوحشية، وقد بدأ بشاعاته الدموية عندما أمر بخنق شقيقه القاصر فى الحمام حتى يتخلص منه كمنافس محتمل فى وراثة الحكم، ثم ألحق بالقتيل القاتل الذى استأجره حتى يمحو كل أثر لتلك الفظاعة.

 

عندما عدت لقراءة ما سبق لى أن قرأته من سيرة هذا الفاتح العظيم ميت القلبفى ضوء تحذير الإخوان من «إعادة انتاج الثورة»، وجدت ذلك التحذير معادلا للمنطق «البرجماتى» النفعى لمحمد الفاتح فى استخدام البشر كأدوات للحصول على القوة، وكأن جماهير الثورة رهن إشارة قيادات الإخوان فى تقلبات أحوال الجماعة مع المجلس العسكرى، تخمدهم وتهملهم إذا سار الهوا هينا بينهما، وتشعلهم إن عصفت الريح بين الاثنين، وهذا الانتقاد لما جاء فى بيان الإخوان لا يعنى أبدا أننى أقف فى صف المجلس العسكرى ضدهم عند هذه النقطة من «الطريق المسدود» فى هذه اللحظة، لأن كليها وقعا فى الخطأ ذاته، عندما تعاملا مع الثورة وناسها بمثابة «باش بوزوق»، بطريقة أو بأخرى وبدرجات متفاوتة فيكثير من محطات سعى كل منهما للهيمنة والحصول على القوة، ثم إن ذلك الطريق المسدود بين الإخوان والمجلس العسكرى لن يظل مسدودا بل الأرجح أن يتم فتحة، على حساب ناس الثورة الذين لم يكف الطرفان عن (باش بوزقتهم) طوال عام ضائع من عمرالثورة والوطن. وهل ننسى؟

 

هل ننسى تلك التعديلات الدستورية المشئومة والاستفتاء الخطيئة الذى فتت توافق قوى الثورة، التى كان شباب الإخوان من فرسانها، وأزاح فضيلة الدستور أولا «أمام مغانم» الانتخابات أولا وقد كان وجود الإخوان ملحوظا فى لجنة صياغة تلك التعديلات وبالأشخاص أنفسهم الذين يتكرر زرعهم فى لجنة إعداد الدستور الآن، ثم الدعاية غير الشريفة التى صورت أن «نعم» فى ذلك الاستفتاء هى نعم للإسلام، وكانت تلك «الموقعة» كاشفة عن تخندق الإخوان مع السلفيين لحصد مغانم «غزوة الصناديق»، التى لم تكن إلا خَصما من حساب مسيرة الثورة وخَصما من قيم الوسطية المصرية، بل خَصما من طابع الاعتدال الدينى الذى يتسم به عقلاء وأسوياء الإخوان، خاصة شبابهم. وهكذا مصير كل بحث عن القوة دون إعلاء للحق.

 

لابد أن نعترف بأن مدنية الدولة هى حق تاريخى لمصر واستحقاق إنسانى للمصريين وصيانة حقيقية لوجه الإسلام السمح والرحيب، وقد باتت مهددة باندفاعات متعصبة ومتزمتة ومسيئة لديننا الحنيف، ولا نقول بأن الإخوان صنعوا هذا التهديد، لكنهم فى مضمار التسابق على القوة غضوا الطرف عن ممارسيه، بل سعوا للتنسيق والتربيط معهم للتمكُّن من الغَلَبة، وغير منتبهين أن هذه البرجماتية تعطى الغلبة حتما للصوت الأعلى ضجيجا والأعتى تعصبا، فهل هذا موقف أخلاقى إذا ما نظرنا للمسألة فى آفاق تفاقمها، ونماذج السودان والصومال ليست بعيدة. بل هل هذا موقف وطنى من جماعة لوحت برايات التنمية والنهضة كمخرج من مأزق الأمة، بينما التنمية والنهضة لايمكن أن تقوم لهما قائمة إلا بتحرير الناس حتى يبدعوا وينتجوا، بلا تضييق ولا تزمت وإن فى إطار الحفاظ على التقاليد والقيم الروحية والأخلاقية، ولا أحد يمارى فى ذلك، حتى ليبراليينا ولا أقول علمانيينا لأن الواقع يقطع بأنه ليس لدينا علمانيين يُذكَرون، فالعلمانية بمعنى إقصاء الدين من حياة الناس مضى زمانها حتى فى الغرب، وهى لدينا ليست اكثر من تهمة افتراها بعض المتطرفين لتشويه معارضيهم.

 

فى مساء الاثنين قرأت تصريحا للدكتور محمد البلتاجى، وهو قيادة إخوانية وطنية سمحة وبعيدة عن التعصب ومشارك بارز فى ثورة يناير، كان نصه: « على الإخوان أن يعترفوا بأخطائهم التى ساهمت فى تباعد القوى الوطنية والثورية «، وأعتقد أن هذه مبادرة سياسية وأخلاقية جيدة، لا فى إطار الاستقطاب ضد المجلس العسكرى المُطالَب هو الآخر باعتراف مماثل، بل فى إطار مراجعة شاملة يقدم فيها الإخوان عهدا ووعدا للأمة بما يصون بديهيات دستورية فى ترسيخ تداول السلطة ديموقراطيا وسيادة القانون واستقلال القضاء ومنع التمييز بين المواطنين فى الحقوق وصيانة الكرامة الإنسانية لكل أبناء الأمة دون استثناء وحَيدة مؤسسات العدل والقوة كالشرطة والجيش والبعد بهما عن التمييز الطائفى والسياسى مظهرا وجوهرا. هذه كلها بديهيات دستورية إن تحققت فى دستورنا دون مناورات التفافية فأكرِم بها وأنعِم.

 

على الجانب الآخر فإن الطابع المدنى للدولة مُناط بالجيش المصرى صيانته ليس  كونه ضمن واجباته كحارس للشرعية فقط، ولكن لحماية المؤسسة العسكرية نفسها كما الشرطة من الاختراق الطائفى الذى يهدد وحدتها ويوهن قوتها، وستكون خيانة من المجلس العسكرى إن تنازل عن مدنية الدولة فى أية مقايضات سياسية مع أى مكوِّن كان حتى لو صح أن عشرين مليونا أو اربعين انتخبوه، وإلا كان الأمر فى حاجة لإعادة انتاج الثورة عن طريق قواها التى تمثل أغلبية حقيقة، لكن ليس كباش بوزوق يمضى على جثامينهم الباحثون عن القوة والتغاضى عن الحق، بل كقوة رفض لكل من قايضوا على ثورتهم لصالح السلطة والنفوذ، وتناسوا الحق فى شعار الثورة البسيط الواضح: تغيير، حرية، عدالة اجتماعية. لا حكم عسكرى، ولا إمارة سلفية، ولا خلافة إخوانية. فمصر لجميع أبنائها، ولم يعد مقبولا أن يحتكر حكمها أو التحكم فيها فصيل إقصائى أو طغيان فردى. مضى زمن الباشبوزقة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .