رسائل البحر - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 5:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسائل البحر

نشر فى : الأحد 28 فبراير 2010 - 2:21 م | آخر تحديث : الأحد 28 فبراير 2010 - 2:21 م
لا يهم ماذا يحمل إلينا البحر من الرسائل ولكن ما يهم هو أن نرى رسائل بحر الحياة المتلاطمة برياح الرجعية والعفن مع الأمل الإنسانى المتلعثم فى لحظة تاريخية صعبة. هذا ما يقوله لنا المخرج المصرى المتميز دائما داوود عبدالسيد فى فيلم «رسائل البحر» وهو من تأليفه وإخراجه. وأنا أختلف هنا عما قرأته قبل مشاهدتى للفيلم أن المخرج لم يحدد زمنا بعينه لعمله الفنى. فالزمن فى تقديرى شرط من شروط الوجود، الزمن يحدد الحالة السينمائية، يحدد روح النص السينمائى.

فهم المشاهد للزمن هو الذى يمنحه إمكانية التلقى، والزمن فى الفيلم واضح، يدور الفيلم الآن، لا يهم ماذا شاهدنا من دلائل، ولكن ما يهم ما تلقيناه من دلالات عن الزمن الآنى، وهى مجمل النص السينمائى. «رسائل البحر» فيلم مصرى يستحق أخيرا المشاهدة والتقدير كما يستحق الثناء عليه. الفيلم قصيدة شعر يتم إلقاؤها بالهمس وبالإيحاء، بفرشاة تخلط ألوان الباستيل بألوان الحياة الدافئة، قصيدة تتضافر فيها خطوط الحلم مع رسائل الواقع فتشكل مشهدا محملا بالدلالات والمشاعر الإنسانية. كرة من لهب تتشكل داخل صدرك بخيوط يغزلها المخرج من ضوء. خيط وراء خيط وراءه خيط جديد متباعدة ولكنها تتشابك بدعة، ونحن لا نرى جليا ما يتم غزله فالخيوط من ضوء ولكنك تجد نفسك فجأة بعد خروجك من قاعة السينما، تقبض داخل روحك على جمرة من لهب تغازل مشاعرك وتداعب أفكارك. دون صخب ودون صراخ وعويل، دون لطم وتصريحات نارية بتحليل الأوضاع المحلية وتشريح جثة الوطن كما فى العديد من الأفلام المصرية الأخيرة التى تلقى الترحيب وهى فى رأيى لا ترقى إلى أن تكون فنا، فنحن هنا نتعامل مع الفن كما أفهمه.

قدم لنا داوود عبدالسيد مشاهد استطاعت تجييش مشاعره، مبنية على استدعاءات خاصة به، وهذا بالتأكيد ما حرك لدى تداعيات خاصة بى وسوف يحرك ولا شك تداعيات خاصة بكل متلقٍ. كما قدم لنا معالجة بصرية وموضوعية قائمة على التركيب المتنافر. فالبطل الصياد لا يبدو صيادا للبطلة وهو يعيش فى شقته الفخمة، والبطلة لا تبدو بائعة هوى للجمهور. المتناقضات تتآخى والأضداد تتعايش أما الثابت غير المتحول هو الإيقاع. استيعاب المخرج الواضح للبناء الموسيقى جعله يحافظ على إيقاع سينمائى رائع، هو إيقاع خاص به. منذ أول وهلة وحتى مشهد النهاية تأملت بانبهار الإيقاع المدروس دراسة متأنية، لا توجد من وجهة نظرى ثانية زيادة أو ثانية ناقصة، بناء مشدود على «المازورة». مشلكتى الوحيدة مع الفيلم ليس لها علاقة بالايقاع وإنما بضرورة تقديم مشهد من مشاهد السيناريو، فقد عرفت حقيقة أن البطلة هى عازفة البيانو قبل أن ترفع بيدها المخملية ستارة المنزل عن وجهها، وتمنيت أن يتقدم هذا المشهد قليلا فى البناء. المثير فى الفيلم هو هذا الخيال الذى ينبض بالحياة. أمسك المخرج خطا يشبه الحلم، العالم غير حقيقى تماما، منغمس فى عوالم تشبه الحواديت كما تشبه ذكرياتنا والغيم يأكل تفاصيل محياها، ولكنه فى آن الوقت يقدم عالما حقيقيا جدا، يصل فى حقيقيته إلى الذروة بظهور صلاح عبدالله. هذا التشابك بين الواقعى جدا والحالم جدا مثير للغاية على مستوى الكتابة والإخراج.

داوود عبدالسيد من المخرجين القلائل فى السينما المصرية الذين يستطيعون تقديم حالة وجدانية خاصة لعملهم الفنى. هذه الحالة التى يطلق عليها Mood هى محصلة توافق وتناغم عناصر الفيلم المختلفة من إضاءة وموسيقى وملابس وإيقاع مع الميزونسين وهى عملية تركيب كل مشهد. هذه القدرة على خلق حالة وجدانية خاصة للعمل الفنى هى من أهم ما يميز المخرج وإلا أصبح مترجم صنايعى للسيناريو المكتوب، وهؤلاء الصنايعية المترجمون هم معظم من يعمل فى هذه المهنة فى مصرنا إلا قلة قليلة. وفى هذا الفيلم كما فى أفلامه السابقة استطاع المخرج أن يقدم حالة سينمائية وطعما ورائحة وذائقة خاصة استمرت على مدار العمل. المناخ العاطفى فى الفيلم قائم على الدفقات والشحنات متناهية الصغر، تتجاذب بفعل قوانين الحياة الظالمة أحيانا وغير المنطقية أحيانا أخرى. كل دفقة محسوبة بدقة، محدودة الأثر فى ذاتها لتأتى الدفقة التالية لتمنحها كيانا أهم وسط نسيج جمالى برائحة بحر إسكندرية.

يا له من ظلم فادح للفن السينمائى ولى كأحد هواة هذا الفن أن يظل مخرج بقامة داوود عبدالسيد لمدة قاربت على العشرة أعوام دون أن يقدم لنا فيلما جديدا. ففيلمه الأخير «مواطن ومخبر وحرامى» تم إنتاجه عام 2001، فى حين أن خلال هذه المدة قدم مخرجون من المترجمين الصنايعية قرابة العشرة أفلام. ما العمل ونحن فى زمن يجلس فيه كبار القامة عن العمل، ويصرخ الأقزام فى وجوهنا صباحا مساء. ما العمل وأنا أرى أبنائى وأبناء جيلهم لم يتلقوا فى حياتهم إلا الصراخ حتى إنهم تصوروا أن الفن والعويل مترادفان. ما العمل ودور العرض لا تقدم لهؤلاء الشباب إلا تفاهات هوليوود وسفاهات السينما المصرية؟ ما العمل والنظام العام السائد فى مصر لا يدعم إلا العويل؟ خرجت من دار العرض وذهنى تتقاذفه هذه الأسئلة، وأذنى تستمع إلى العزف الهامس لجمرة النار التى أسكنتها برفق رسائل البحر فى روحى.
خالد الخميسي  كاتب مصري