ارحلا - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 10:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ارحلا

نشر فى : الخميس 27 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 27 يونيو 2013 - 8:00 ص

يوم الأربعاء 6 فبراير من هذا العام انضم شاب عراقى آخر إلى موجة المعبرين عن مراراتهم بقذف الجُناة بالأحذية، فقد أقدم شاب من الجالية العراقية فى لندن يُدعى ياسر السامرائى على قذف « بول بريمر» بحذائه بينما كان الأخير يتحدث عن تجربته كأول حاكم أمريكى للعراق بعد الغزو، فى لقاء داخل إحدى قاعات البرلمان البريطانى حضره صحفيون وسياسيون وعدد من العراقيين والمهتمين بالشأن العراقى فى العاصمة البريطانية.

 

 طلب الشاب إذنا بالحديث، فتكلم عن أنه نشأ ووُلِد فى العراق وأنه يحمل لبريمر رسالتين،  فاهتم الأخير، إلا أن السامرائى باغته بقذف فردة حذاء وصلت بالكاد إلى المنصة التى يجلس عليها، فابتسم بريمر شامتا بزهو، لكن السامرائى عاجله بقذف فردة حذائه الثانية،  صارخا: «اللعنة عليك وعلى ديمقراطيتكم المزيفة.. لقد دمرتم بلدى ولن تفلتوا».

 

 بول بريمر الذى عينه جورج بوش الابن ليحكم العراق تحت الاحتلال الأمريكى، مكث فى موقعه عاما واحدا وكان أول وأخطر ما فعله هو حل الجيش والشرطة العراقيين مما فتح باب الشر لتدمير كيان الدولة العراقية بإزالة مؤسساتها بغية إحلالها بمؤسسات بديلة تلائم مخططات أمريكا وتخضع لنفوذها وهذا ما حدث عند إعادة تكوين جيش وشرطة عراقيين لم يكونا إلا تعبيرا عن الطائفية البغيضة التى دمرت ولا تزال تدمر العراق وترمى به واقعيا فى فخ التقسيم الطائفى والعرقى الذى لا نهوض لدولة فى ظلاله الدامية المعتمة.

 

 لقد دفعت الولايات المتحدة ثمنا لا بأس به من جنودها ومليارات دولاراتها للحصول على هذا التقسيم للعراق فى إطار مخطط تقسيم المنطقة الثانى بعد سايكس بيكو والمعروف بمخطط تقسيم المُقسَّم وتجزيء المُجزَّأ الذى وضع فلسفته الصهيونى البريطانى المتأمرك برنارد لويس. لكن الولايات المتحدة فيما بعد دشنت سياسة غزو جديدة تُعرف بـ «الحرب الرابعة»، تدفع فيها أمريكا أقل القليل من المال،  ولا تفقد جنديا واحدا من جنودها، وتتلخص فى تكرار ما حدث فى العراق من تدمير كيان الدولة بتفكيك مؤسساتها واستبدالها بكيانات تقسيمية للأمة قوامها الطائفية أو التمييز العرقى أو المذهبى أو العشائرى، مستخدمة فى ذلك أوراق الضغط والاستمالة الأمريكيين،  وترك المهمة القذرة ليقوم بها آحاد أو جماعات من أبناء الدول التى يريدون تدميرها، سواء بوعى شقى أو بلا وعى غبى، وقد حدث هذا ويحدث فى مصر؟

 

 أعتقد أن « الخطيئة الأولى» التى أدت إلى ركام الخطايا التى تخنق مصر حاليا، هى اللعب بورقة الدين فى السياسة، والزعم بأن أفراد جماعة أو جماعات بعينها هم وكلاء الله الأرض. وبعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من فشل اقتصادى وسياسى وأمنى بعد سنة طويلة ومريرة من حكم محمد مرسى، فإن ما حدث خلال أحد عشر شهرا هو كوم،  وما حدث فى الشهر الأخير هو كوم وحده، وهو الأكبر والأخطر والأحقر فيما أرى. صحيح أن هناك شريطا طويلا من مشاهد استباحة هذا الحكم لمصر والمصريين عبر سياسة «التمكين» المُهدِرة لاختيار الكفاءات،  و«الأخونة» المدمرة لمؤسسات الدولة وهويتها التاريخية، إلا أن ما حدث فى الشهر الأخير أخذ طابعا يقطع لا بمجرد خلل سياسى، بل بخلل أخلاقى هو أبشع ما يكون تأثيرا على بلادنا.

 

الأبشع، والذى يقطع بأن هذا الرجل فى سدة الرئاسة لا أمان له ولا أمانة وليس بالرجل الطيب كما يتم تسويقه، هو ما حدث فى وقائع محددة تتابعت فى الأسبوعين الأخيرين،  وتجعل من سلوكه مُعادِلا بحساب النتائج لما انتهجه بول بريمر لتحطيم العراق من أجل مصالح خاصة، أمريكية فى حالة بريمر، وإخوانية بل شخصية فى حالة مرسى، الذى لا يمكن أن يكون طيبا ولا كريما لأن اللؤم والكذب أداته، وهذا ما شاهدناه بالصوت والصورة،  فاضحا وفادحا فى الفترة الأخيرة!

 

إزاء فشل رئاسته سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تدنت شعبيته إلى درجة أفزعته،  وبدلا من السعى للتصالح مع الأمة بالتطهر رجوعا عما ارتكبه من خطايا، راح يلعب لعبا ليس نظيفا أبدا بقضايا أخطر أو أطهر ما تكون، كقضية مياه النيل فى مواجهة بناء سد النهضة الأثيوبى، وقضية مأساة الشعب السورى. فى القضية الأولى رأينا ذلك اللقاء المسخرة الذى انقلب فيه السحر البائس على الساحر الخائب عندما دعت الرئاسة من دعتهم إلى قصر الاتحادية بزعم التباحث فى قضية بناء سد النهضة الأثيوبى، ولأن النية لم تكن صادقة لدى هذه الرئاسة، وكان هدفها إظهار التفاف أطياف الأمة حول الرئيس لتكريس الانطباع بأن شعبيته على ما يرام، كان ما كان وانتقص المشهد الهزلى المذاع على الهواء من قيمة هذا الرئيس وهبط بشعبيته مزيدا وأطاح بمصداقية كثيرين ممن حضروا الاجتماع وكشفوا عن تهافتهم. ثم كان مهرجان ما سموه «لقاء القوى السياسية» للتشاور فى موضوع سد النهضة الأثيوبى فى قاعة المؤتمرات، ورأينا التحشيد المفتعل من أهل وعشيرة الرئيس فى هذا المهرجان، وأثارت فجاجة الموكب الرئاسى المكون من أكثر من عشرين سيارة امتعاض كل من تابعه، وكان الاستنتاج المنطقى أن ذلك الإنفاق الباهظ هو قطعا من جيب الدولة ويفضح عدم حرمة المال العام لدى هذا الرئيس وما يمثله. ثم كانت الطامة الكبرى فيما سُمِّى مهرجان «نصرة سوريا»،  والذى كان تحشيدا فخَّخ الوضع المصرى الداخلى بكذبٍ على فتنةٍ على تحريض. لأن حقيقة المشهد كانت الإيهام بشعبية «سمع هُس مافيش كلام. الرئيس مرسى تعظيم سلام». ولم يكن ذلك إلا المهرجان العلنى الأول للفتنة والإرهاب برعاية أول رئيس «مسلم» منتخب على حد تعبير أحد مشايخ السلطان الذين حشدهم الرئيس تحت سقف القاعة المغطاة!

 

ليس من الشرف الوطنى، ولا الاستقامة الإنسانية، ولا الطيبة الفردية، أن يخرج أى إنسان من مأزقه الخاص بوسائل غير أخلاقية مدمرة لغيره، فما بالك برجل يُفترض أنه مسئول أمام الله والناس عن أُمَّة، يعبث بقضية وجود كقضية مياه النيل لقاء «شو» إعلامى خادع أحدث شرخا يصعب مداواته فى علاقتنا بعمقنا الأفريقى مع أثيوبيا وسائر دول حوض النهر، ويدرَّع نفسه بالمتطرفين والإرهابيين فى مهرجان ترويجى آخر تحت لافتة المأساة السورية، وبعده يتغوَّل هؤلاء وعيدا وتهديدا بالعنف تجاه المصريين الرافضين لسوء أداء هذا الرئيس فى جمعة سموها «نبذ العنف»! فهل كان ذلك أقل مما أتى به بريمر فى العراق؟

 

«هدم الدولة بتدمير مؤسساتها التاريخية الجامعة، واستبدالها بأخرى استقطابية لتكريس الفتنة وتسهيل الإنقسام» كان هذا عين ما أقدم عليه بريمر فى العراق. وهذا ما شرع فيه مرسى، سواء بالتدبير أو سوء التقدير، عبر سياسة التمكين بالتشريعات الباطلة والتعيينات الفجة، ثم بتحشيد أمراء التعصب والإرهاب من حوله فى محاولة الإيهام بشعبية كاذبة وتخويف أمة تُجمع على رفضه، غير عابئ بزرع الفتنة وتأجيج التطرف فى مصر لتفتيت قواها،  وهذا ما يفسر اندفاع السفيرة الأمريكية «آن باترسون» فى الذود عن استمراره بطريقة بلغت حد الوقاحة فى دس أنفها فى شئوننا الداخلية بما فيها جيشنا الوطنى،  فهل وجدت فيه ضالتها، وهى الخبيرة بصناعة الفتنة واللعب بجماعات التطرف فى باكستان وأفغانستان؟

 

ملحوظة: بعد أن أخرج أفراد الأمن الانجليز الشاب العراقى قاذف بريمر بالحذاء، أطلقوه فمضى إلى بيته آمنا، بلا عقوبة غير حرمانه من دخول البرلمان البريطانى بعد ذلك! وبرغم أننى ضد فجاجة وعبثية نماذج القذف بالأحذية،  إلا أننى أعتقد أن القذف بالحقائق ضرورة وواجب فى اللحظات الحاسمة، ونحن فى لحظة حاسمة ينبغى أن يُقال فيها لهذا الرجل: ارحل،  ويقال لآن باترسون: ارحلى معه.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .