ضد الخِزى .. دِفاعات نفسية! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 5:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضد الخِزى .. دِفاعات نفسية!

نشر فى : الأربعاء 26 أغسطس 2009 - 5:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 أغسطس 2009 - 5:40 م

 كان من أغرب المناظر التى شاهدتها فى حياتى، فآلاف العصافير التى عادت من سعيها فى حقول القرى المجاورة للمنصورة عند الغروب، لم تجد مساكنها التى اعتادت أن تبيت فيها، فعشرات أشجار تين الزينة متوسطة القوام وذات الهامات الخضراء الكثيفة، كانت مقطوعة كلها، ومطروحة على الأرض فى صف طويل على امتداد رصيف الكورنيش، وتعلقت سحب آلاف العصافير حيرى وقريبة من الأرض، ترفرف فوق هامات هذه الأشجار المقطوعة، تدرك أنها بيوتها، لكنها صارت غريبة ومريبة، فلا هى تستطيع أن تأوى إليها على الأرض، ولا هى تعرف مساكن بديلة لها.

صار شارع الكورنيش يغلى بخفق آلاف الأجنحة الصغيرة المعلقة فى الهواء، ومع دخول المساء تحول الخفق إلى هياج وخبط عشوائى للعصافير المتعبة التى جنها الشوق إلى الراحة، تبحث عن مكان، أى مكان، ولم يكن هناك غير سور الكورنيش وحافة الرصيف وأفاريز نوافذ وشرفات البيوت، وشجرة كافور عملاقة عمرها أكثر من مائة عام لاذت بها آلاف العصافير، وكانت شقشقاتها فى هذا الاضطراب تشكِّل ضوضاء مخيفة.

تلك الشجرة، وكما كتبت عنها فى كتابى «البستان»: على جذعها العالى يوجد أثر قديم يرجعه العارفون إلى سنة 1798، وهو كتابة بالفرنسية تقول «خاب سعيك يادوجا.. لن نسلم مصطفى.. لن نسلم العدِّيس «وكانت موجهة للجنرال» دوجا «الذى عينه الغازى نابليون قومندانا على المدينة ومديريتها وأرسله لقهر أهلها والقبض على المحرضين فى حادثة يوم السوق التى فتك فيها الأهالى بجنود حامية الغازى جميعا، وتذكر كتب التاريخ أن المنصورة رفضت أن تسلم ولديها المطلوبين «على العدِّيس» و«مصطفى الأمير»، فقطع «دوجا» رءوس عدة رجال من أبناء المدينة وجعل جنوده يطوفون بشوارعها حاملين الرءوس المقطوعة على أسنة الحراب، لكن المنصورة لم تذعن.

وعلى مسافة أخفض من الأثر السابق يوجد تاريخ محفور بضخامة هو 19 مارس 1919، يوم من أيام الثورة، وذكرى موقعة ربط فيها أبناء البلد سلكا معدنيا متينا وشدوه عبر الشارع وثبتوا طرفه الآخر حول عمود من أعمدة المقهى القديم، فحصد السلك فصيلة كاملة من الخيالة الإنجليز المنطلقين بالرماح والبنادق فى أعقاب مجموعة من الثوار استدرجوا جنود الاحتلال لهذا الكمين، وكان ذلك بعد يوم واحد من مجزرة 18 مارس التى أطلق فيها جنود الاحتلال النار على مظاهرة للطلاب راح ضحيتها عشرون طالبا.

وبعيدا عن كل الآثار المحفورة على جذعها يُحكى أن أم كلثوم غنّت تحت أغصانها المرصعة بأنوار الكلوبات فى عهدها الباكر. وشدا السنباطى بأول ألحانه فى سرادقات الطرب التى كانت تقام فى رحابها. وفى ظلها جلس الدكتور هيكل وتأمل جمال النهر وعذوبة المدينة فسماها «باريس الشرق». وفى جلسة الشعراء ساعة العصارى بجوارها أنشد على محمود طه قصيدة الجندول. وكان أحمد حسن الزيات، صاحب «الرسالة»، يعقد ندوته فى ظلالها فاشتهرت بين الأدباء بأنها «شجرة الزيات».

توقف ركب عبدالناصر بإشارة منه تحتها، ورفع وجهه المتهلل إلى أغصانها وحيا طويلا، إذا كانت الأغصان مثقلة بعشرات من أبناء المدينة التى خرجت كلها لاستقباله. بينما غير السادات، قُبيل أيام من اغتياله، مسار موكبه فى اللحظات الأخيرة حتى لا يمر بها، إذ شاع أن قناصا يكمن له فى تلافيفها العصية على التفتيش.

وما من عاشق صغير إلا وحفر على جذعها اسمه واسم محبوبته فى هذا الرسم الشهير للقلب المرشوق بسهم الحب. وما من صبى تعلم الكتابة إلا وحاول حفر اسمه عليها. وكانت تصعد، تفسح مكانا لقلوب أخرى وسهام حب جديدة وأسماء وتصعد. ولا تخلع عن لحائها أبدا رقائق الذكرى ولا عِزّة التواريخ».

لم أؤلف هذه الشجرة أبدا، فقد كانت حقيقة من حقائق كورنيش المنصورة المواجه لمقهى أندريا، وما من معلومة ذكرتها إلا وتقصيتها فى كتب التاريخ، وفى ذاكرة عواجيز المدينة، وهالنى هذا الزخم من الذكريات والمشاعر الذى تكتنزه شجرة واحدة، كانت من أضخم وأعلى أشجار الكافور فى مصر وربما فى العالم، وروّعنى كما روّع غيرى أن تكون مهددة بالقطع، ولماذا؟ لمجرد أن مسئولا مغوليا قفزت إلى ذهنه فكرة رعناء، يعلم الله ما وراءها، لإنشاء جسر علوى فوق مدخل الكوبرى القريب منها ثم إقامة برج سكنى ضخم بمكانها، لكن جسّات التربة التى أجراها أساتذة كلية الهندسة أظهرت عدم صلاحية الأرض لصعود أى جسر ونهوض أى برج، ولم يكن المغولى، شأن مغول مصر دائما، لينتظر رأى العلم والعلماء، فبكّر بمذبحة الأشجار التى كانت ذروتها اغتيال هذه الكافورة.

وقف عشاق الشجرة العظيمة يراقبون ما يحدث من الضفة الأخرى للشارع، وكنت أحدهم، ثم مع تعب الوقوف والترقب انصرف من انصرف وبقى أكثرنا عشقا للشجرة، عشرين أو ثلاثين مكثنا من الضحى حتى الغروب، أخرجنا الكراسى من مقهى أندريا وجلسنا نتطلع إلى الشجرة وما يجرى معها عبر الشارع، بينما كانت تحاصر جذعها الضخم ثلاث عربات مطافئ بسلالم متحركة، وارتفعت السلالم حاملة عمالا بمناشير كهربائية، ومن هناك بُدئ بقطع الأغصان الطرفية البعيدة، وكنا نهمهم ساخطين وخائفين على نحو ما، فقد كانت هناك أكثر من عربة «بوكس» مدججة بالمخبرين ترابط فى الحديقة الصغيرة بجوار المقهى. كما أن أكبر أقسام الشرطة لم يكن يبعد غير بضعة أمتار عن المكان. ومع حلول الليل كان الجذع الهائل ينتصب عاريا من أغصانه، ثم بدأوا بنشر الخصر العملاق للشجرة العملاقة، وكنا نزوم ونتجرأ قليلا فنشتم، لكننا لم نفعل أكثر من ذلك.

بعد نشر الكثير من محيط الشجرة قرب الأرض، ربطوا أعاليها بأسلاك من الصلب، وأخذ أكثر من بلدوزر يشد الأسلاك فى اتجاه محور الشارع الذى قطعوا فيه السير، وتعالى صرير الشجرة عاويا مخيفا وهى تميل، فلم ندر هل كان رعبنا الغاضب هو الذى صرخ أم غضبنا المرعوب، كنا نشتم بأصوات مخنوقة ونلوح بقبضات مترددة، ولكن بعد فوات الأوان.
هوت الشجرة العملاقة، وكان لارتطامها بالأرض دوى ابتلع أصواتنا، وهزّة ارتجف لها الرصيف الذى كنا نشغله وتأرجحت مصابيح المقهى وفزعت العصافير التى كانت نائمة على سور الكورنيش وأفاريز البيوت.

طارت العصافير طيرانا غريبا يشبه مروق الوطوايط المتقاطع أو لحظات الهياج لدى طيور الخطاف. وكانت فى مروقها وهياجها تلطم وجوهنا أو تكاد، فشعرنا بخوف غامض، وانسحبنا مثقلين بالحسرة، وبشىء آخر لم أكتشفه إلا بعد سنين من وقوع هذه الحادثة: إنه الخزى !

الخزى ولا شىء غيره، اكتشفت أننا كنا ننسحب مخزيين، لأننا لم نفعل أكثر مما يفعله متفرجون على عرض ما، ولم تكن شتائمنا المتساحبة وقبضاتنا الملوحة بلا إصرار غير تعليق متفرجين، متفرجين يعلمون جيدا أن ما يدور أمامهم لم يكن مشهدا تمثيليا، بل جريمة حية، جريمة فساد وجهل وقلة ذوق وبلادة كانت ذروتها قطع شجرة عظيمة بلا مبرر غير فجاجة الفساد، فالمسئول عن هذه المجزرة كان مشهورا بالدناءة والشره، وسماه أبناء المدينة «أبو بطن»، لأنه كان مولعا بالعزومات على موائد المنتفعين، ولم يترك شارعا فى المدينة إلا محفورا أو مبقورا مما يشى برائحة مقاولات مجارير لم تكن لتنتهى!

خزى يفسر الطريقة التى طوّرْتُ بها الحدث عندما صار قصة باسم «العميان»، فقد جعلتُ دوى وزلزال سقوط الكافورة يوقظ فى آلاف العصافير المفزوعة سُعارا يخرجها من جنس العصافير فتنقلب إلى جوارح، تتقصد العيون فتفقأها وتنهشها حتى لم تترك من مشاهدى اللحظة واحدا غير أعمى. وحوّلتُ المقهى بعد ذلك إلى مقهى للعميان، روّاده عميان، وجرسوناته عميان، وحوله يطوف أو يقعد بائعون من العميان.

لماذا كنت قاسيا على هذا النحو فى توزيع كل هذا العمى؟ إنها الرغبة فى الثأر من الشعور بالخزى، نوع من الآليات الدفاعية النفسية ضد عبء الذكريات الأليمة يتجلى فى الإبداع، كما فى الأحلام المريرة، لأننى مثل كل من كانوا هناك، لم نفعل أكثر من الفرجة على جريمة فساد وغباوة، واضحة وفاضحة، فلا فساد بلا غباوة، ولا غباوة إلا ويكمن فى قلبها الفساد، وكان يمكننى، يمكننا، أن نفعل أكثر من ذلك.. حتى لا يسحقنا الخزى، وحتى لا تُعاقبنا كوابيس العمى.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .