حديث الذهب..فيمن غرق ومن اغترب - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 11:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حديث الذهب..فيمن غرق ومن اغترب

نشر فى : الأربعاء 24 يونيو 2009 - 10:04 م | آخر تحديث : الأربعاء 24 يونيو 2009 - 10:04 م

 «كدهه.. كدهه.. كدهه. تشوف جزيئات الدهب الصغيرة وهيه بتجرى علشان تتلم مع بعضها.. عايزه تكبر.. ترجع لأصلها».

بهذه الكلمات البسيطة كان الدكتور مصطفى السيد يجيب عن سؤال لى حول آلية تشكيل قضبان الذهب الناناوية، التى يستخدمها فى أبحاثه الرائدة لكشف وعلاج السرطان، أى التى تقاس ببضع عشرات من النانومترات، حيث النانو متر هو واحد من بليون من المتر، أو واحد من مليون من الملليمتر.

ولم تكن كلمات الدكتور مصطفى وحدها هى التى تصف عملية تكوين هذه القضبان فائقة الدقة من ذرات الذهب فى محلول خاص تحت ميكروسكوب إلكترونى خاص، بل كانت أصابعه المضيئة وعيناه الخضراوان اللامعتان خلف زجاج نظارته الأنيقة السميكة، وكيانه الطيب كله، تتشارك فى وصف هذه العملية العجيبة لتكوين قضبان فائقة الدقة، تُطلَق على الخلايا السرطانية، فتلتصق بها وحدها، وتومض كاشفة عن مرضها، وبتسليط جرعات مخففة من أشعة الليزر منخفض الطاقة على هذه القضبان، تمتص القضبان طاقة الليزر وتسخن، فتدمر الخلايا الخبيثة، وتظل الخلايا السليمة على حالها.

فى هذه اللحظة من بساطة العبقرية البشرية أمامى، وتجلى الحياة حتى فى الجوامد، أشرقت روحى بالرؤية، ولم أصرخ صرخة الفرح: «وجدتها»، فمعظم الموجودين كانوا ممن يحسنون الظن بى كعاقل رزين، ولا يتوقعون منى الجنون فرحا بتألقات الحكمة فى مسارات الوجود، وقد كانت حكمة فريدة، يلزم لإدراكها بعض التمهيد..

فنحن نعرف الذهب كمعدن خامل، وهو يكتسب بر يقه وقيمته من خموله، لأنه لا يصدأ، ولا يتآكل، ولا يذيبه حمض منفرد حتى لو كان ماء النار، وبالرغم من أنه يذوب مع الزئبق إلا أنه لا يتفاعل معه، فيظل محتفظا بصفاته فى السبيكة، لهذا يمكن فصله واستعادته ذهبا خالصا من جديد. لكنه عندما يتفتت إلى دقائق بالغة الضآلة، أى جسيمات نانوية، يحدث تغير عجيب فى سلوكه، فهو يتحول إلى عنصر نشِط شديد التوتر، ولا يهدأ توتره إلا بالعودة إلى أقرانه من الجسيمات النانوية، حتى تتكون جسميات أكبر، فأجسام مستقرة، أى قطع من الذهب الساكن، الراضى، المطمئن!

هذه الرحلة المدهشة لخصها الدكتور مصطفى في دقيقتين ملأتانى بالإشراق، وكان لابد أن أبحث عن التفاصيل بنفسى لإماطة اللثام عن سر هذا التبدل العجيب فى سلوك الذهب، وهو ما لم يُتح له الوقت فى اللقاء، ووافره لى الإبحار بزورق الفضول فى قنوات المعرفة المتاحة. فهناك مشوار بالغ القسوة من السحق والحرق والتبريد لتحويل معدن كالذهب إلى جسيمات نانوية فائقة الدقة، فالمعدن يتم تحويله إلى مسحوق ناعم أولا، ثم يتعرض هذا المسحوق لحرارة هائلة فى غرفة مفرغة من الهواء فيتحول إلى بخار، وبالتبريد المفاجئ لهذا البخار وتمريره فى غاز خامل، تتكاثف الجسيمات بالغة الدقة التى تقاس بالنانو. وتتحول هذه الجسيمات الدقيقة، التى من الذهب، إلى شىء مختلف تماما عن الذهب الذى نعرفه، فهى فى المحلول تكون حمراء اللون ضاربة إلى السواد، شرهة للتفاعل، متوترة، ومجنونة بالشوق للتلاحم مع بعضها البعض.. تريد أن تكبر، تريد أن تعود إلى أصلها!

سلوك عجيب أثار انبهارى كونه صادرا من مادة جامدة، بينما هو سلوك فطرى لدى كل حى، فالخلية الحية غاية وجودها أن تكبر وتتكاثر وتتلاحم مع أقرانها فتتكون من تجمعاتها الأنسجة، والبشر الذين يمثل رعب انفصالهم عن أجساد أمهاتهم أكبر الدوافع النفسية للبحث عن شريك، والائتناس بالصداقة والأقارب والمعارف، أى الحياة الاجتماعية، ومن ثم تشكيل العائلات، القبائل، العشائر، الأعراق، المجتمعات، الدول. القانون نفسه الذى يعبر عن أشواق تلاحم الصغير مع الصغير لتكوين كيان أكبر، يبعث على الشعور بالأمان، بالعزوة، بالونس. إنه قانون مذهل الشمول، ينطبق على أسراب الطيور المهاجرة، وتجمعات الأسماك الصغيرة عابرة المحيطات، وقطعان الحيوانات المرتحلة فى الغابات والبرارى بحثا عن الماء والعشب، وأيضا البشر فى حنينهم الغريزى للوطن والأهل والأحباب.

إنه قانون من قوانين الفطرة يحكمنا كما يحكم كل ما نراه، من جسيمات الذهب النانوية تحت الميكرسكوب، إلى الطيور والأسماك والحيتان والغزلان والذئاب والبشر، ومن ثم علينا أن ننظر إلى ما يناقضه كخرق للفطرة واختلال فى منطق الحياة لأسباب لابد أن تفزعنا وتدق نواقيس الخطر فى أرواحنا. وهنا أذكر مثالا على ذلك يتمثل فيما نظنه انتحارا جماعيا للحيتان، التى تلقى بنفسها على الشواطئ. فهى لم ترد الانتحار ولم تسع للموت، بل إنها تبحث عن النجاة من تلوث مرعب يهدد حياتها فى بيئتها، وطنها، الماء، ومن ثم تندفع ملقية بنفسها على الشاطئ بحثا عن فرصة للنجاة غير منتبهة لما ينتظرها، فهى فى الماء تكون عائمة ولا تثقل عليها أوزانها الهائلة، لكنها على الأرض تنوء تحت عبء أوزانها، التى تعيق حركة أضلاعها فلا تستطيع التنفس، تحتضر مختنقة، وتموت إذا لم يتم إنقاذها بإعادتها إلى الماء.

ألا يحيلنا ذلك إلى ما يحدث لموجات بشرية من شبابنا المختنقين بالبطالة واليأس، يلقون بأنفسهم فى زوارق الموت وبحار الغرق لعلهم ينالون النجاة على شواطئ أوروبا؟ دوافع شبيهة بتلك التى تجعل الحيتان تلقى بنفسها على البر فتموت، وهى دوافع تعكس وجود تلوث جسيم فى بيئة الحياة، حتى إن هناك أبحاثا تشير إلى مخاطر إشعاعية تسببها الغواصات النووية وتدفع بالحيتان إلى هذا الجنون فى التماس النجاة، وثمة أبحاث أخرى تشير إلى تلوث صوتى وكيميائى وبيولوجى وكهرومغناطيسى يمكن أن تكون سببا فى هذا السلوك الجنونى للحيتان.

وبالمعيار نفسه، فإن حلم الخروج من الوطن، ومغادرة الأهل، لا بالهجرة غير الشرعية وحدها، بل حتى بالهجرة الشرعية، خاصة عندما يتحول هذا الحلم المُر إلى ظاهرة كاسحة بين زهرة شبابنا، إنما يعبر عن اندفاع آخر ضد فطرة الحياة وقانون الوجود لدى كل الكائنات، من نانوهات الذهب حتى أسراب الطير وقطعان الحيوانات وتجمعات البشر. ظواهر ومؤشرات ينبغى أن ترعبنا، لأنها تنبئنا بأن تلوثا جسيما يتخلل حياتنا ويتفاقم، وهو أخطر من تلوث البيئة، الذى يُعتبر مظهرا من مظاهر تلوث أكبر وأخطر وأعم.. تلوث سياسات فاسدة، وسلوكيات رديئة، وادعاءات كاذبة على الله والناس والنفس. تلوث بلغ أقصى حدود الأذى، وبات يستصرخ المكافحة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .