القمح الليلة.. - عمرو خفاجى - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 12:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القمح الليلة..

نشر فى : الأحد 24 مايو 2009 - 10:11 م | آخر تحديث : الأحد 24 مايو 2009 - 10:11 م

 التوقف عند قضية القمح الهائجة على سطح السجال هذه الأيام.. ضرورة. ضرورة سياسية قبل أن تكون ضرورة اقتصادية أو غذائية أو حتى أمنية، فالقمح مشكل مزمن فى ملفات السياسة المصرية، وعنوان بارز فى سياسات مختلف العهود والعصور بعد ثورة يوليو 1952، وعادة ما يمثل القمح صراعا سياسيا رغم أبعاده التجارية الواضحة، وليس من باب المبالغة أن يصفه البعض بأنه «سلاح»، وآخرون أطلقوا عليه «استعمار» نظرا لخطورة هذه السلعة على الأمن الداخلى لعلاقته بالأمن الغذائى (الحد الأدنى للطعام) لبعض الشعوب، وفى مقدمتها مصر.

وما بين «سلاح القمح» و«استعمار القمح» دارت دوائر عديدة فى التاريخ السياسى المصرى القريب، ما بين الغزو الأمريكى بالقمح فى زمن الهيمنة السوفييتية، وتسلل القمح الروسى وقت العلاقات الخاصة مع واشنطن وحتى القمح السعودى فى أوقات التقارب العربى السعيدة، ومؤخرا قمح البحر الأسود بعد تفكك الاتحاد السوفييتى.. أوكرانيا.. كازاخستان على سبيل المثال، وعلى الدوام تكون فرنسا حاضرة بأدب فى ملف القمح المصرى.

والتوقف عند فساد القمح أيضا، ضرورة صحية لشعب يعانى من المرض بشكل غريب، وكانت دوما عبارة «غير صالح للاستهلاك الآدمى» تهيمن على غالبية النقاشات.. ومعها تتعالى صيحات النواب فى البرلمان أو صرخات قادة الرأى العام فى وسائل الإعلام.. ثم تكون على الهامش إشارات غير بريئة أن القمح كله جيد وصالح، وأن فساده ملفق فى إطار حرب المستوردين أو حتى لصالح المسئولين عن الإفراج عنه (أخبرنى أحد كبار التجار أنه يتعرض لإفساد قمحه بوضع السوس داخل العينات إذا لم يدفع المعلوم).. و هكذا تضيع الحقائق وسط صغائر الأمور التى يهتم بها صغار الناس رغم كبر حجم القضية.

هذه المرة كان السجال جديدا وفاخرا ومختلفا عن المرات السابقة.. حينما أصبح القمح رمزا للصراع بين موسكو وواشنطن، وأن هناك من يعمل على إفساد صفقات القمح غير الأمريكية لصالح القمح الأمريكى، خاصة أن الأمريكان مازالوا يرغبون فى السيطرة بالقمح مثلما حاولوا أول مرة (1963).. بالمناسبة وقتها قال الساسة الموالون لموسكو: إن الصرصور الكبير الذى يطير وانتشر فى مصر جاء مع صفقات القمح الأمريكى، وأصبح هذا الصرصور يحمل اسم American Cockroach «الصرصور الأمريكى» فمن الواضح أن القمح سلاح فعال وناجع ترغب أمريكا فى استخدامه بمنطقة الشرق الأوسط، بعد فشل أسلحة كثيرة استخدمها خلال الفترة الماضية، وكانت موسكو ترغب فى نزع هذا السلاح من يد غريمتها.

السجال الصحفى السياسى حذر من هذا، بعضهم طالب بضرورة تنويع مصادر القمح، على طريقة تنويع مصادر السلاح، باعتبار القمح هو أيضا سلاح. وهناك قصة غاية فى الطرافة سجلها الأستاذ جميل مطر فى مذكراته الدبلوماسية عن القمح الأرجنتينى.. 1965وقتما كانت مصر تقاوم القمح الأمريكى وهى قصة تكشف كامل السذاجة المصرية فى التعاطى مع هذه القضية.. والآن يذهب البعض بنا إلى أن ما يحدث هو بداية حرب تجارية مصرية روسية تحركها أصابع رجال لديهم مصالح مع واشنطن لتمكينها من إتمام مخطط السيطرة على تجارة القمح فى المنطقة فى إطار مخططها الكبير لاستمرار سيطرتها على المنطقة بالقمح والسلام والسلاح. ( وبغير القمح والسلام والسلاح) طبعا.

أما الذى أزعجنى فى كل هذا السجال وفى كل هذه النقاشات، الغياب الكامل لفكرة الاعتماد على الذات فى إنتاج القمح، إذا كان بكل هذه الأهمية، وأننا جميعا نعى ونعلم خطورته فى تحقيق الأمن الغذائى.. أعرف مقدما أن هناك من سيحدثنا عن العائدات الاقتصادية لإنتاجه وأن استيراده أوفر.. وأن هناك صعوبة فى كذا وكذا.. إلى آخر الصعوبات التى نبنيها أمام أى مشروع مهم تحاول أى أفكار تقديمها للمجتمع.. لكننى بصراحة كنت أتمنى أن تكون هناك بعض الآراء، حتى ولو كانت ساذجة تطرح فكرة الاعتماد على الذات فى إنتاج القمح.. لأن هذه الأفكار لها ضرورة فى تعبئة الأجيال القادمة بأهمية طرح حلول نملكها بين أصابعنا.. بدلا من البحث عن حلول هى دوما فى أيادى الآخرين.. وهذه الطريقة فى التفكير، حتى ولو كانت ساذجة، ضرورة.. لا تقل عن ضرورة القمح.. وهنا تجب التحية لكل من جاهد بالكلمة والرأى من أجل سلامة القمح من الحشرات، واهتم بصحة الشعب المريض الذى يزداد مرضا يوما بعد آخر.

ولايبقى سوى أن نحلم سويا بعودة عيد القمح الذى غنى له عبدالوهاب ومجده بموسيقاه.. ومن قبله غنت الملايين فى الحقول للقمح وقت الحصاد.. وكانت أجمل اللحظات الرومانسية فى ريف مصر عندما تغنى الفلاحة للقمح.. وللفلاحين الذين يحملون السنابل بين سواعدهم التى كانت تطعم البلاد.. فلا عادت الفلاحات للغناء.. ومرضت سواعد الرجال.. وباتت البلاد تبحث عن القمح.. وتبددت نغمات عبد الوهاب.. وبقى القمح وحيدا غريبا.. فاسدا فى غالب الأحوال أمريكيا.. روسيا.. أو أوكرانيا.. كازاخستانيا.. فى كل الأحوال.

للأسف لم يعد للقمح ليلة يحتفل فيها بالعيد.. بل ليال طويلة حزينة مظلمة يعانى فيها من الغياب،و الفساد، والتجاهل.

عمرو خفاجى  كاتب صحفي وإعلامي بارز
التعليقات