يوسف إدريس .. أين فى الرمضاءِ ظلٌ من ظلالك - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 12:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يوسف إدريس .. أين فى الرمضاءِ ظلٌ من ظلالك

نشر فى : الخميس 21 مايو 2009 - 9:18 ص | آخر تحديث : الخميس 21 مايو 2009 - 9:18 ص

 عرفت أنه من سرير المستشفى فى لندن طلب تسجيلات أغانى عبدالوهاب. وكانت تلك بشارة رائعة، فاستيقاظ هذا الجزء من المخ الجميل بعد الغيبوبة الطويلة، يعنى أن الميلاد الجديد محتمل جدا، وقريب، فكما فى هرم الاحتياجات البشرية المنسوب لماسلو، حيث الفن والأدب والثقافة هى قمة الهرم، المخ أيضا يتوِّج وظائفه بهذه القمة المرهفة. فطلب يوسف إدريس لأغانى عبدالوهاب، كان يعنى أن الوعى صعد إلى القمة، وأن شفاءه اكتمل، أو اقترب كثيرا من الاكتمال. أنعشنى هذا الخبر، فطرت لأتزوج فى سورية، وكان هو متحمسا لهذا الزواج الذى حدثته عنه قبل مرضه، وظل يومها يحدثنى كثيرا عن سورية وأهلها، وأحبابه فيها. والمفارقة الغريبة أنه فى الليلة التى تعثر فيها فى حرف السجادة وارتطم رأسه النبيل الجميل بزجاج النافذة السميك، وحدث نزيف المخ، كان على موعد للسفر إلى سورية، لهذا كانت سورية تتابع أنباء مرضه بقلق كبير، وحب، وأكثر كثيرا من مجرد الدعاء.

***

بعد خمسة عشر عاما من زواجى، وإنجابى للولدين اللذين رأيا النور والتقطا أول أنفاسهما فى سورية، لم أكن ذهبت إلى بلودان، مصيف عبدالوهاب الشهير، برغم كل الحكايات الساحرة عن مناخها. كان ذلك ترفا بالغا بالنسبة لواحد مثلى، يعتبر أن قضاءه وقتا فى شرفة شقة بسيطة فى حى هادئ فى مدينة سورية، تحيط به عدة أشجار برتقال وليمون حلو، وتتنقل بين الأفاريز بضع يمامات تعشش فى المكان وتألف وجوده، وسرب حمام يحلق فى سماء العصارى كأنما من أجله، مع كوب الشاى بالنعناع ورقة النسائم، كان ذلك منتهى الإرَب من أجل الأدب. لكننى انسحرت ببلودان التى قضيت فيها يومين فى عز أغسطس، ذلك المناخ الفردوسى فى تراس فندق بلودان الكبير المطل على الجبل والوادى، ووجدت نفسى أهتف فى نفسى: «يابن الإيه يا عبدالوهاب»، وإذا بى أرى طيف عبدالوهاب، فى عز أغسطس أيضا، يرتدى بدلة كاملة تناسب لسعة البرد الخفيفة العذبة فى نسيم بلودان، ولم أشعر بنفسى إلا وأنا أتساحب لأصعد وراءه الدرج الخشبى، المفروش ببساط أحمر، يصعد إلى الطابق الثانى، إلى الجناح المخصص له، والذى لايزال يحمل اسمه، لكننى اكتفيت من الفضول بأن أرى الطيف يتجه إلى الشرفة ثم يشف، ويتحول إلى نغم ساحر، يرف فوق الوادى الأخضر، ويشاغل وردية الجبل، وزرقة السماء الصافية القريبة.

وكنت وانا أهبط درج الجناح أكرر : «يابن الإيه يا عبدالوهاب». فقد تكشفت لى حقيقة المقولة المتواترة عن أن فنه كان أول أولوياته، وقضاؤه الصيف فى بلودان دليل ساطع على ذلك، فلم يكن مستعدا لتبديد لحظة من ضغط القيظ القاهرى على ذاته المبدعة، قبل أن تتطور أجهزة التكييف، ولعله بوسوسته الصحية كان لا يحب هذه الأجهزة، ويفضل عليها نسيم بلودان المُكيَّف ربانيا.

كانت إمكانات عبدالوهاب تسمح له بشَغل هذا الجناح الجميل فى فندق بلودان الكبير طوال الصيف، وجعلنى هذا أتحسر على الكُتّاب الذين لم يمتلك أيهم ترف مثل هذا الاختيار، ولا حتى نجيب محفوظ بعد نوبل.

وبينما كنت أصغى، عبر سماعات هاتفى النقال، لأغنية نادرة لعبدالوهاب فى تراس بلودان الكبير تقول: «هذه الدنيا هجير كلها / أين فى الرمضاء ظل من ظلالك»، شعرت بوخزة فى القلب إذ افتقدت يوسف إدريس، فيوم طلب أغنيات عبدالوهاب، ظننت أنها بشارة بكامل الشفاء وسلامة العودة، ولم أفطن إلى أنها كانت إشارة إلى تسامى الروح، والتفاتة ما قبل الوداع.

***

سألت يوسف إدريس يوما عما يفعله فى الأهرام، لماذا لايتفرغ لإبداعه؟ وأخبرنى أنه ليس مطلوبا منه إلا أن يعطى الأهرام ما يريد أن ينشره مما يكتب. لم أفهم عمق هذا المعنى على الفور، لكننى بعد كدح السنين والاغتراب، ورضا الله عنى بصون كرامتى من اللجوء لما يسمى منح التفرغ من وزارة الثقافة بشروطها المتسلطةالمهينة، أدركت أن مجلس الحكماء الذى كان يشغل الطابق السادس فى الأهرام، كان أرقى مؤسسة تُقدم أرقى شروط التفرغ لبعض من أرقى مبدعى مصر، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، توفيق الحكيم، وغيرهم. وكانت تلك إحدى لمحات البصيرة فى عبقرية محمد حسنين هيكل، والتى تعكس إدراكا عميقا لفهم المبدعين والإبداع، وتشى ببعد نظر عملى ثاقب، فبهذه الصياغة المتحضرة لتفرغ المبدعين، صان هيكل كرامة هؤلاء الكبار، براتب محترم وضمان صحى ومكاتب لائقة وسكرتارية، وحصل فى المقابل على تميز ثقافى غير قابل للمنافسه لجريدته التى انفردت بنشر تألقات هؤلاء الكبار على صفحات ملحق الجمعة، الذى كان حدثا ثقافيا عربيا جامعا لامعا، ومنارة فكرية.

ملحق الجمعة الذى كان، والذى لن يكون أبدا.. بما هو الآن كائن!

***

19 مايو، ذكرى ميلاد يوسف إدريس، كنت حريصا أن أقول له «كل سنة وانت طيب»، وكان يفرح كطفل بأن يسمعها من أحبابه. طفل كبير جميل طيب. هو بالفعل طيب، أطيب مما يتصور كثيرون. ويكفى أن نستعيد نداءه: «تعالوا نتثقف ياناس»، ونصغى لصيحة تحذيره من «فقر الفكر وفكر الفقر»، ونراجع كشفه لبشاعة «الذين يأكلون لحم أمهم». لندرك أنه كان رائيا مُلهَما يحبه الله، فشمله مبكرا برحمة من ظله، وأنقذه من رمضاء ما نكابده الآن !

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .