الدولة لا الغابة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 1:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدولة لا الغابة

نشر فى : الخميس 21 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 21 مارس 2013 - 8:00 ص

الفضول الغالب هو الذى دفع بى لخوض تجربة السير فى أكثر من غابة خطرة فى هذا العالم. ومن بينها جميعا كانت غابات الجنوب الإفريقى هى التى كونت لدىّ رؤية لمفهوم الغابة، أراه الآن يكاد ينطبق على بلدى، وهو أمر مروِّع ليقينى أن وحشية البشر عند الانفلات هى أبشع كثيرا من وحشية الحيوانات البرية حال الافتراس. وقد تعلمت من الكتب كما من مغامرى الغابات الذين عبرت بهم وعبروا بى أبجديات قواعد السير الآمن فى الغابة لتحاشى إثارة غضب الحيوانات المفترسة، وهى: (لا تتحدث إلا همسا، ولا ترتدى ملابس زاهية الألوان، واخلع نظارتك وساعتك وكل ما يلمع فى ثيابك، وامش خافضا رأسك قليلا ولا تنظر فى عين حيوان تلقاه). والعجيب أن هذه المشية أوصى بها كتاب مهم فى طوارئ الأمراض النفسية، وتسمى «مشية الجندى البريطانى فى أيرلندا»، كانت مما يتدرب عليه جنود الهيمنة البريطانية فى الجزء الأيرلندى، حتى لا يستثيروا شحنة الكراهية للإنجليز الكامنة فى صدور الأيرلنديين، فنظرة العين فى العين كما تُطلق حنان الحب وأشواق المودَّة، تفجِّر عنف الكراهية وصدام الريبة، وهو أمر مُجرَّب مع الوحوش فى الغابة كما فى عنابر وباحات المجانين الخطرين فى المستشفيات العقلية. لكن فى أمور البلاد التى توشك أن تصير غابة بدلا من الدولة، فالأمر مختلف، ويحتم العكس تماما: أن ننظر فى عين الوحش! وأن تصرخ فى وجهه!

 

 فى الغابة الإفريقية يجعلك المسير تكتشف أن القطعان هى التى ترسم مسارات الحركة فى أرجائها المترامية، وتقاطع هذه المسارات هو الذى يشعل شرارات الافتراس والعراك الدموى. وفى مصر الضائعة فى ظل حكم متيبسى الإخوان قصار النظر ومنقوصى الكفاءة، والذين لم نر لهم أمارة براعة فى الحكم إلا فى تدبير حيل يقتنصون بها أقصى ما يمكنهم من السلطة، وإصدار قوانين تآمرية لتمكينهم من هذه السلطة، وقد تراكمت من ذلك استباحات للأمةأطلقت بغطرستها سراح الفوضى، وفى الفوضى ظهر سلوك القطعان، ودموية الافتراس فى أشكال لم تعرفها مصر من قبل، وما ظهور أعواد المشانق والتمثيل بجثث المقتولين إلا نماذج مفزعة على ذلك الجنون الدموى، مهما كانت جرائم من يُمثَّل بجثامينهم. وما يُقال عن أن ذلك نتيجة لغياب الشرطة وافتقاد الأمن، لا يمثل إلا نصف الحقيقة فنصفها الآخر هو التغييب العمدى للشرطة بإنهاكها فى مواجهة الاحتجاجات السياسية وسوقها بسياسات لا تتسق مع مهماتها الأمنية الجنائية والقانونية فى ظل فوضى عارمة وعوز مستحكم فى الإمكانيات الشرطية لمواجهة الجريمة الجنائية وترسيخ أمن الناس.

 

 مصر تنحدر من كيان الدولة إلى كينونة الغابة، وقد كان بيان النيابة العامة الذى يلوح بمنح المواطنين حق الضبطية القضائية كاشفا لخطورة المنزلق الذى يقودنا إليه فريق الحكم الإخوانى الذى لم ينشغل طوال الوقت إلا بإصدار قوانين وتعيينات تآمرية تمكنه من غنيمة السلطة ولو على أنقاض الدولة، ففور صدور بيان النيابة العامة الغشيم واللئيم والمُقامر، سارع قتلة سابقون للشرطة بإعلان نيتهم القيام بدور الشرطة، وآخرون جاهروا بطلب حق الضبطية لأفراد شركات أمن خاصة مسلحة، وهدد من لاشأن له بأنه لن يسمح بعودة الضباط المحتجين إلى عملهم، وشرع أكثر من حزب من التيار المسمَّى إسلاميا بتكوين لجان شعبية لحفظ الأمن. ولم تكن هذه العينات للاستعداد الميليشياوى كلها سوى نذير بما يضمره كثيرون ممن يتمنون حقيقة انهيار الدولة لتقوم على أنقاضها كياناتهم التى لن تكون دولة بأى حال، بل غابة بشرية على غرار ماحدث فى الصومال، تجوبها قطعان مسلحة تدعى ما تدعى، وهى لا تمارس إلا افتراس كل من يتقاطع معها فى الرأى أو عدم الإذعان لمشيئاتها الفاسدة.

 

ليس لدى أمل فى محمد مرسى وصحبه لتدارك الأمور بتقديم حلول سياسية تنقذ ما يمكن إنقاذه مما قادونا إليه، فهم إضافة لما انكشف من ضيق أفقهم السياسى وقلة كفاءتهم فى إدارة الدولة، لايزالون أسرى لتفكير الأخويات السرية برغم تسنمهم قمة الحكم، وهو تفكير لايمكن إلا أن يكون استحواذياوتآمرياوإقصائيا إلى أن يريد الله بهم وبنا خيرا، كما لا أمل كبير لدى فى المعارضة مهما حسنت نواياها طالما ظلت بعيدة عن الأرض العطشى للحرث والزرع والجهد والتضحية، والشارع المعارض والغاضب يسير بحسه لا برؤى سياسية جامعة ومنفتحة على الأفق. فهل من تصور للخروج من منزلق الغابة وهوج القطعان؟

 

 مصر دخلت فى لحظة حرجة، وبمنطق علاج الحالات الحرجة لابد أن تكون هناك عناية مركزة وتدابير طوارئ، وبما أن أعمدة الدولة تنهض على مؤسسات القوة العاملة تحت مظلة القانون، فلابد أن يكون هناك استقلال كامل لمؤسسات الجيش والشرطة والقضاء، وأن يكون بينها تنسيق متواصل لعبور المرحلة الحرجة، بعيدا عن الاستقطاب السياسى أو الأيديولوجى للرئاسة أو الوزارة أو أى فريق سياسى، كونها مؤسسات مهنية محترفة تسير وفقا لمنطق العدالة والحق لا أهواء الاستقطاب والاستحواذ. وأعتقد أن هذا الثالوث لو حافظ وحافظنا معه على حيدته واستقلاله ومهنيته الاحترافية، لصار الكابح المنطقى لتغول القطعان وانفلات الغابة، والحفاظ على كيان الدولة التى تتفسخ بفعل فاعل غشيم أو لئيم، على حد تعبير شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودى عما يحدث فى بلدنا الآن: «مصر عجنها عجان خايب أو شيطان»، وكلاهما يودى بنا إلى مصر الغابة، ويقصينا عن مصر الدولة. ولا أتصور خروجا آمنا لمصر من هذه المعجنة، إلا بقوة الدولة نفسها ممثلة فى مؤسستى القوة: الجيش والشرطة، ومعهما كضابط قانونى مؤسسة العدالة المستقلة ممثلة بالقضاء.

 

لا أقول بانقلاب، ولكن بأن تعلن هذه المؤسسات مجتمعة إرادتها هاتفة: «نحن هنا»، نحن هنا لنقول لا لكل ما يدمر كيان الدولة وتجاوز منطق العدل بين كل أطياف المجتمع، نحن هنا لصيانة كيان الدولة الوطنية بعيدا عن شهوات الأمميات الغابرة المدمِّرة للدولة الوطنية المصرية وهويتها التاريخية الوسطية المنفتحة الجامعة المبدعة، نحن هنا لا للحلول فى كراسى الحكم، ولكن لإيقاف من يجلسون فى كراسى الحكم أيا كانوا عن تماديهم اللئيم الغشيم فى سعرة التمكين وسرعة الاتجاه بنا إلى مصير الغابة منفلتة القُطعان، فالمصريون يريدون الدولة ويتعطشون إلى وجودها، وما مظاهرة شبرا التى حرست مدرعة الشرطة التى أودع داخلها المدعو «جمال صابر» ونجله المتهم بالقتل إلا تعبير عن رغبة المصريين فى بقاء وفعالية الدولة التى حملوا ممثليها من ضباط وجنود الشرطة على أعناقهم وهتفوا لهم. هتفوا للدولة ضد الغابة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .