ضرس الظواهرى وليس درسه - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 9:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضرس الظواهرى وليس درسه

نشر فى : الخميس 16 سبتمبر 2010 - 9:32 ص | آخر تحديث : الخميس 16 سبتمبر 2010 - 9:32 ص

 القصة وردت فى كتاب «نظرية الواحد فى المائة» للصحفى الاستقصائى الأمريكى البارز والحاصل على جائزة بوليتزر «رون سسكند »، وعنوان الكتاب يشير إلى نظرية «ديك تشينى» نائب الرئيس الأمريكى بوش الابن، والتى أطلقها بعد أحداث 11 سبتمبر فيما سُمى الحرب الوقائية ضد الإرهاب والتى تبرر الضربات الاستباقية حتى لو كانت نسبة الخطر المحتمل لا تتجاوز 1 فى المائة.

تحكى القصة أن المخابرات الأمريكية فى أعقاب كارثة 11 سبتمبر ومع الغزو الأمريكى لأفغانستان، نشطت فى طلب رءوس عديدة، فى مقدمتها رأس أسامة بن لادن، وبعده رأس أيمن الظواهرى، وبشأن هذه الرءوس رُميت المناشير فى سماء أفغانستان معلنة عن مكافآت بملايين الدولارات، لمن يٌدلى بمعلومات «تؤدى إلى قتل أو اعتقال المطلوبين»، وكانت المكافأة المعروضة لرأس الظواهرى هى 25 مليون دولار!
أغرى الرقم عديدين بالحصول عليه، فكثرت البلاغات وتعددت الاستدراجات لأقوى مخابرات على وجه الأرض، وتدفقت تقارير كاذبة عن موت الظواهرى فى أواخر عام 2001 وبداية عام 2002، وكان كل تقرير قبل انكشاف خيبته يبعث فى قلب ال«سى آى إى» كما البيت الأبيض نشوة سرعان ما تنهار مخلفة الشعور بالإحباط والفشل. لكن تقريرا استخباراتيا أتى بعد ذلك وكان مختلفا، لأن المبلغين به كانوا وفدا من قادة بعض القبائل الأفغانية الطامعين فى الحصول على الخمسة وعشرين مليون دولار.

أفاد وفد رجال القبائل أن أيمن الظواهرى قد قُتل منذ شهور ودُفن فى وادٍ سرعان ما غمرته الثلوج وأنهم يعرفون مكان الدفن. وطلبت الاستخبارات العسكرية الأمريكية بالتعاون مع القوات الخاصة الكندية براهين أكيدة على ذلك قبل تسليم المكافأة، ولم يعترض رجال القبائل بل كانوا واثقين من إفادتهم حتى إنهم صبروا حتى ذوبان الثلوج فى الربيع، ونبشوا المكان المعلوم، وكشفوا عن الجثة.

كان الرأس الذى اقتلعه الأمريكيون من الجثة منزوع الفك، وضعوه فى علبة حديدية تسلمها فى البداية فى أفغانستان فرد من المخابرات المركزية اسمه «ستيف» كان يعمل وراء ستار النشاط الاجتماعى، ومنه انتقلت العلبة الحديدية وخبيئتها إلى يدين أشد قوة لعنصر مخابراتى آخر اسمه «دان كولمان»، كان عليه أن يوصل الحرز الثمين إلى غايته فى العاصمة الأمريكية، ففتح هذا العلبة ومد يده داخلها ليتأكد مما تسلمه، وخرجت يده بالجمجمة منزوعة الفك ومقلوعة الأعين وليس على عظامها غير قليل من الجلد الميت.

رأى ضباط المخابرات الامريكية فى واشنطن هذه الجمجمة «أشبه بكرة البولينج»، وفى منتصف الجبين ركزوا على انبعاج بعث فيهم الأمل، لأنهم رأوا فى ذلك أثر علامة الصلاة السمراء التى طبعت جبين الظواهرى والناتجة عن فترات السجود الطويلة، فغمغموا بانتصار: «لا شك يشبه الرأس رأسه». وكان على دان كولمان أن يكمل مشوار العلبة الحديدية الخطيرة، فتأبطها بحرص ونفور ومضى بها إلى سيارته.

فتح دان سيارته السوداء المغطاة بالغبار التى لم يجد وقتا لتنظيفها بعد أحداث 11 سبتمبر وما رتبته هذه الأحداث عليه وعلى زملائه من انشغال، ووضع العلبة المرعبة مع كراكيب متنافرة فى صندوق سيارته، وشق طريقه عبر عاصمة الأمة الأمريكية!

فى مقار المباحث الفيدرالية الأسمنتية العملاقة فى الشارع التاسع فى منطقة قريبة من الكونجرس، كانت الأنوار مضاءة بخفوت، وفى مختبر «البراهين» فى الطابق الثالث كانت هناك حاجة لطبيب شرعى يتسلم الرأس ولم يكن ذلك متاحا فى الساعة الثالثة صباحا، فحددوا له إخصائيا فى فحص الرفات المدفونة، ولم تكن غير طبيبة تُدعى «ميسى» استقبلته لتتسلم الحرز فى بيتها فى تلك الساعة وهى تضع إصبعا على شفتيها حتى لا يُصدِر جَلبة، فعلى أريكة قريبة كانت تغط فى نوم عميق طفلة عمرها 8 سنوات هى الأبنة المُتبنَّاة التى كانت الطبيبة قد جلبتها من روسيا قبل بضعة أعوام!

«ماذا لدينا هنا؟» سألت الطبيبة، وأجاب دان بلا مبالاة: «رأس. مطلوب مطابقة حمضه النووى»، وفتحت ميسى العلبة الحديدية ووضعت يدها المكسوة بقفاز داخلها وأخرجت الجمجمة منزوعة الفك مقلوعة العينين وتفحصتها بدقة ثم أعلنت بإحباط أن الرأس لا يتوافر فيه المطلوب لتحديد الحمض النووى لشخص ومقارنته بعينات حية، ونبست «ربما أجد نسيجا صالحا فى أحد الأسنان».

لفّت الطبيبة الرأس فى قطعة قماش معقمة وأخذت استمارة تسلم الحرز من دان كولمان طالبة منه ذكر الاسم الذى تسجله تحته، ولم يكن هناك اسم، بل رقم مُشّفر «259391 أن إى 265»، ما إن ذكره دان حتى نظرت إليه الطبيبة بترقب سائلة فى خفوت: «أليس هذا ملف قضية بن لادن»، وهز دان رأسه دون أن تُفصح ملامحه عن شىء، فناولته إيصال التسلم، وأودعت الرأس «تحفة الحرب ضد الإرهاب، وطلسمها»، فى خزانة خاصة، وبحرص شديد، حتى لا توقظ الطفلة النائمة!

بعد مرور بضعة أيام ثقب الخبراء الشرعيون الجمجمة للوصول إلى لب ضرس أمامى توقعوا أن يجدوا فيه بقايا نسيج صالح للتحليل، وحصلوا على عينتهم وبات بإمكانهم الشروع فى التعرف على الحمض النووى لصاحب الجمجمة، وهذا يتيح معرفة جنسه وعمره لكنه لا يكشف عن هويته المحددة، فكان ضروريا مقابلة النتيجة بنتيجة أخرى مستخلصة من أحد أفراد العائلة، وكان محمد الظواهرى رهن الاعتقال فى القاهرة، فاتصل مدير عمليات ال«سى آى إيه» بمسئول أمنى كبير فى مصر.

تلقى المصرى (تبعا لرواية رون سسكند) المكالمة، وأجاب بالطريقة المصرية على محدّثه «تريدون عينة؟ بسيطة، سنأتى بأخيه، ونبتر يده ونرسلها إليكم»، صرخ الأمريكى الذى لم يفهم المزحة «يا إلهى.. كلا! ارسلوا لنا عينة دم بقارورة صغيرة. ستكفى». ولم يذكر الكاتب إن كانت المكالمة انتهت باستيعاب الأمريكى لمزاح المصرى أم لا. لكن عينة الدم التى أُرسلت للولايات المتحدة، وبعد تحليلها ومقارنة الحمضين النوويين، قطعت بأن الجمجمة لا علاقة لها بأيمن الظواهرى. وهو ما أكدته الأيام بعد ذلك عبر بيانات الظواهرى التى لم يكف عن بثها من كهفه، ظانا أنه بها يحرك العالم!

إنه عالم عبثى، يلعب فيه أناس حادو الذكاء وقساة النفوس لعبة شريرة، بيادقها أرواح الأبرياء والعُزّل وخسائرها دماء مهدرة وبلدان تحترق. وقطعا لست مع هذا ولا ذاك من أطراف لعبة هذا الذكاء الشرير، هذا الذكاء الغبى، هذا التعصب من طرفين كلاهما تنويع على تشوُّه الآخر، لكن إذا كانت قسوة منتسبى القاعدة يمكن تفسيرها، لا تبريرها، بجنوح نفسى وفكرى نتيجة شعور بمظالم حقيقية وعجز مرير عن تصحيحها، فإننى أتعجب فعلا من أمريكا، الذكية القوية الغنية المبتكرة المتطورة المنفتحة، كيف لها أن تخضع لإرادة قلة منحطة من اليمين الصهيونى تحركها فى اتجاه أحقادها العنصرية وشراهتها للاستحواذ على ثروات ومقدرات الشعوب، حفنة من بارونات شركات النفط وأساطين المجمع الصناعى العسكرى الأمريكى المتصهينين.

لو كانت أمريكا ذكية ذكاء حقيقيا طيبا لما وقعت فى هذا الفخ الكونى كله، ولما تجشمت إهدار دماء أكثر من خمسة آلاف من جنودها قضوا نحبهم فى غزو أفغانستان والعراق، وتريليون وربع تريليون دولار تكاليف الحرب المفتوحة فى هذين البلدين المنكوبين حتى الآن، والتخلى عن قيمها فى الديمقراطية وصرامة العدالة وحقوق الإنسان والانحدار فى جرائم التعذيب والإبادة لمئات الآلاف من الأفغان والعراقيين إضافة لمسئوليتها المباشرة عن جرائم إسرائيل الاستعمارية الدموية والعنصرية فى فلسطين ولبنان وكل محيطها العربى، ومن ثم حصاد كراهية مليارات البشر لهذه الأمريكا التى لن تكف عن الانشغال بهاجس 11 سبتمبر طالما عميت عن الإجابة الواضحة على السؤال الذى طرحه بعض الأمريكيين فى أعقاب هذه الكارثة «لماذا يكرهوننا؟!».

قائمة صغيرة كان ولايزال ممكنا أن تستغنى بها الولايات المتحدة عن كل هذا الفزع فى قلبها وإفزاع العالم منها، خاصة العرب والمسلمين كما الأحرار والعدول فى العالم كله: أن تكف عن الخضوع لإرادات ومصالح ومطامع بارونات النفط والسلاح ورأس المال والإعلام اليمينى المتصهين داخلها، ولا تنحاز هذا الانحياز الفاجر لكيان عنصرى ودموى وغاصب كإسرائيل، وتكف عن دعم المستبدين والمنكلين بشعوبهم فى العالم البائس. مطالب بسيطة ومتسقة مع الذكاء الإنسانى الخيِّر، والذى كان سيتكفل وحده ليس بتسليم الظواهرى و«بن لادن» دون مقابل، بل ربما جعلهما يسلمان نفسيهما طوعا، مع قطع دابر أى 11 سبتمبر جديد، هذا إذا كان 11 سبتمبر من صنع القاعدة حقا، وليس وراءه بالتدبير أو التمرير هذا اليمين الصهيونى الأمريكى نفسه، وامتداده الإسرائيلى.. تبعا لمفهوم البحث عن المستفيد الحقيقى من ارتكاب أى جريمة، وخصوصا جريمة فظيعة ومريعة، وبكل هول 11 سبتمبر!.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .