ما العمل؟ - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 12:15 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما العمل؟

نشر فى : الأحد 15 نوفمبر 2009 - 9:59 ص | آخر تحديث : الأحد 15 نوفمبر 2009 - 9:59 ص

 التقيته وهو فى حيرة من أمره.. لا يعرف ماذا عليه أن يفعل وسط ضغوط أبنائه عليه.. بدا أنه فقد البوصلة الداخلية التى كانت تقوده دائما إلى القرار الصائب، ولا مجال فيما نعيشه من فوضى أن يجدها مرة أخرى. هو رجل فى الخامسة والخمسين من العمر فقد خلال مشواره الطويل سواد شعره ولم يتبق له غير خصلة سوداء فى جانب رأسه الأيمن تنسدل وسط لبدة بيضاء تجعل وجهه كوجه أسد هصور. ولكن عنفوان بنيانه وصلابته وكتفيه العريضتين اللتين تحملان رقبة مصارع جعلته يبدو فى عقده الرابع. لديه من الأبناء خمسة ومن الأحفاد خمسة، وكان يعتبر أن الخمسة وخميسة فى حياته تحمل فألا حسنا جعلته فى يقين أن الغد يحمل فى أحشائه لأبنائه رائحة الرياحين. ولكن يبدو أنه لم يستطع أن يورث هذا اليقين لأبنائه. البكرية تزوجت منذ خمس سنوات والثانية تزوجت منذ ثلاث، والثلاثة ذكور لم يتزوجوا بعد، أصغرهم فى الثانوية العامة. ماتت زوجته منذ بضعة أعوام وتقوم الابنة الثانية بدور الأم حيث إنها تقيم فى نفس العمارة فى منطقة عين شمس.

عائلة مصرية عادية تواجه موج الحياة بحكمة الدهر. ولكن منذ خمسة عشر يوما دفع القدر نحو هذه العائلة بموجة فاقت فى ارتفاعها هذه الحكمة التى يتسلحون بها بكل افتخار. بدأ هذا اليوم الذى زلزل هناءة حياتهم بداية عادية. لم يذهب الابن الأصغر إلى المدرسة فدروسه الخصوصية انتهت فى الثالثة صباحا، وذهب الأوسط إلى جامعته بعد أن فطر مع أبيه طبق الفول المعتاد، أما الابن الأكبر فلم يكن فى هذا اليوم فى القاهرة فهو يعمل أسبوعين فى الغردقة ويعود أسبوعا فى القاهرة. أما الوالد فقد توجه إلى المدرسة التى يعمل بها، والتى كانت قد أغلقت أبوابها بسبب إنفلونزا الخنازير. ظل ساعتين هناك ثم خرج يجوب الشوارع، وهناك التقى بها.. كريستينا.. ألمانية جاءت تبحث عن عائلة زوج حصل بسببها على الإقامة فى ألمانيا، ونهب منها ثمانية آلاف يورو، وتلاشى مع بخار الضباب الصباحى البرلينى. سألته عن عنوان ومدت له يدها بورقة قرأها واكتشف أنها تبحث عن العمارة المواجهة لبنايته. اصطحبها إلى هناك واكتشفا أن الزوج خدعها أيضا فى عنوان إقامته فى القاهرة.

وأمام الخواء الزمنى المريع الذى خلقته إنفلونزا الخنازير فى حياته قرر مساعدتها. وكانت أول مساعدة طلبتها منه هو أن يجعلها تكتشف كنوز القاهرة. كانت فرصة له أيضا أن يقوم باكتشاف مدينة لم يتركها منذ ولد ولم يعرفها أبدا. وخلال ثلاثة أيام سار معها فى دروب فرعونية وأيوبية ومملوكية وفاطمية لم يطرقها أبدا. وفى اليوم الثالث توصل إلى مكان إقامة عائلة الزوج عن طريق رقم هاتف كانت قد احتفظت به عندما طلب منها هاتفها الخلوى للاتصال بأبيه. وأمام اسم عائلة زوجها الهارب المكتوب أسفل العمارة قررت ألا تصعد. سألها ولماذا إذن تكبدت عناء السفر من برلين إلى القاهرة؟ فأجابت بعفوية لكى أتعرف عليك. كان رده عليها جافا، أوصلها إلى باب فندقها وعاد إلى منزله. ولكنه فوجئ بها فى المساء تدخل عليه حجرة الصالون مع ابنه الذى اتصلت به لتطلب منه أن يمر عليها بعد جامعته ليصطحبها معه إلى منزله. جلسا وحدهما وبعد رشفتين من كوب الشاى الذى قدمه لها الابن الأصغر واختفى بعدها داخل مذاكرته، صرحت له بشغفها ورغبتها فى الزواج منه بعد تطليقها من الزوج الغائب. طلبت منه أن تأخذه معه إلى برلين ليعيشا هناك سويا. مدت له من خيالها خيوطا من حرير سوف تربطهما فى الغد القريب. كان قراره واضحا. هو لم يشعر تجاهها بمشاعر حب ولا يريد ترك قاهرته التى لا يعرفها ولا يريد ترك المقهى الذى يجلس إليه فى عين شمس ليلعب الطاولة.

عادت كريستينا إلى برلين بعد أن أكدت له أنه يحبها وسوف يكتشف ذلك بنفسه. وأنها سوف تعود إليه بعد ستة أشهر تكون قد تخلصت من زواجها الوهمى. فرح بسفرها وعاد إلى مقعده المعتاد فى المقهى. لم يعر ما قالته أى اهتمام. وهنا بدأ الإعصار. ضغط يومى هائل على جهازه العصبى من أبنائه لقبول المغامرة. صرخوا كيف أنه لا يرى روعة الفرصة التى سوف تفتح أمامهم أبواب السفر إلى ألمانيا. صرخوا كيف أنه لا يرى أن هذا هو الميراث الوحيد الذى يطلبونه. تهاوى بنيانه الصلب من توسلات فلذات كبده. ما العمل والمدرسة مغلقة أبوابها، وشوارع القاهرة مغلقة دروبها والوطن أغلق أبواب الغد أمام أبنائه.. ما العمل؟

خالد الخميسي  كاتب مصري