الحادثة - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 1:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحادثة

نشر فى : الأحد 13 ديسمبر 2009 - 9:53 ص | آخر تحديث : الأحد 13 ديسمبر 2009 - 9:53 ص

 تعرفت إليها حين تعطلت السيارة وأنا فى الطريق الدائرى شمال شرق القاهرة. كانت السيارة قد تخطت ببضعة كيلومترات الأوتوستراد فى الطريق نحو القاهرة الجديدة. كانت تجلس القرفصاء على أسفلت الطريق فى المنطقة الضيقة يسار الخط الأبيض المرسوم لتحديد نهر طريق السيارات، وكانت تسند ظهرها إلى سور أسمنتى غير مرتفع وتتابع سيل السيارات المسرعة باهتمام بالغ وهى تقرأ بصوت واهن آيات من القرآن الكريم. اقتربت منها وأنا غير مصدق أن امرأة يمكن أن تجلس فى هذا المكان. لابد أن بها خبلا. فالعاقل لا يمكنه أن يعرض حياته لمثل هذا الخطر المحقق.

كانت فى الخمسين من العمر، ترتدى ملابس سوداء وتفترش الأرض. لاحظت أنها قد وضعت مفرشا بلاستيكيا للجلوس عليه. تراجعت عن فكرة الخبل بعد أن رأيت المفرش. سألتها إذا كان يمكننى تقديم أية مساعدة، فلم ترد واستمرت فى تلاوة القرآن. خفت عليها فطلبت منها أن أوصلها إلى أى مكان بعد تصليح السيارة. لم تعرنى اهتماما، فأسندت ظهرى إلى السور الأسمنتى بجانبها وبدأت محاولة الكلام.

فى النهاية عرفت قصتها: توفى ابنها وهو يحاول مرور الطريق الدائرى منذ ثلاثة أعوام، صدمته سيارة مسرعة وهربت، ظل بين الحياة والموت لفترة، بعد أن خاف السائقون نقله إلى المستشفى فتتهمه الدولة بقتله ويدخل فى سين وجيم وهو لا ناقة له ولا جمل فى هذه الحادثة. بعد دفنه قررت الأم المكلومة أن تسعى كى لا تتكرر مأساتها. حاولت بسعيها هذا تقديم المساعدة لكل الأمهات. ظلت بعد وفاة ابنها تحاول وفقا لإمكانياتها أن تلفت نظر المسئولين أنه لا يوجد معبر واحد لمرور المشاة عبر الطريق الدائرى فى هذه المنطقة. ورغما عن هذا لا يكف المارة عن المرور. فهناك حاجة دائمة لعبور نهر هذا الطريق المزدوج.

حتى إن هناك بصفة دائمة تلاميذ يعبرون فى طريق الذهاب والإياب إلى مدارسهم هذا الطريق الدائرى. ولكن لا من مجيب. تمر السنوات والمارة يزداد عددهم وهم يعرضون حياتهم للخطر يوميا. أثناء وقوفى معها أدركت أنها لا تنظر إلى السيارات المسرعة ولكنها تتابع بوجل عبور المارة. يعلو صوتها أحيانا عندما يكون الخطر وشيكا ظنا منها أن تلاوتها سوف تنقذ المارة من الموت.

شاهدت مئات المارة يمرون وتوقعت فى كل لحظة توقفتها هناك أن الكارثة وشيكة. تتشكل جمعيات فى كل أنحاء العالم للضغط على الحكومات لرعاية المارة. كان 8 % من البشرية تسكن المدن فى عام 1800، وقبل هذا التاريخ كانت نسبة السكان الذين يسكنون المدن أقل كثيرا من نسبة الـ8 %. اليوم نصف سكان العالم يسكنون المدن.

هذه المدن العملاقة غير الإنسانية التى أصبحت مخزنا مريعا لتكديس البشر غير مؤهلة فى معظمها لحماية المارة، وخاصة الأطفال منهم. أكدت الإحصائيات هذا العام أن ثلث ضحايا حوادث السيارات فى العالم من الأطفال من سن 6 إلى 10 سنوات. وأظهرت الدراسات العلمية أن الطفل لا يرى مثل البالغ. لا يمكنه أن يرى السائق نظرا لقصر قامته، ويتصور أن السائق يراه، الطفل غير قادر على التمييز بين الحجم والمسافة، وبالتالى لا يستطيع تحديد المسافة بين السيارة وبينه، وبالطبع هو غير قادر على تحديد العلاقة بين سرعة السيارة والزمن والمسافة. أما فيما يتعلق بالسمع فالطفل لا يستطيع التعامل مع كل الأصوات التى يستمع إليها، فيقوم باختيار الأهم بالنسبة له. فلو استمع على سبيل المثال إلى نداء من أحد زملائه وصوت كلاكسات سيارة فسوف يختار أوتوماتيكيا أن يستمع فقط إلى صوت زميله.

كل هذه المعوقات تجعل الطفل عرضة إلى حوادث السيارات أكثر من البالغ، وخاصة أثناء عودته مجهدا من المدرسة عندما يكون تركيزه فى أدنى المستويات.

لو أضفنا إلى كل ذلك عدم وجود إشارات مرورية أو أنفاق مرور أو كبارى علوية أو أى وسيلة للمرور بصورة آمنة فى العديد من الطرق فى مدننا لأن الدولة قررت أثناء تخطيط هذه الطرق أن المارة لا معنى لوجودهم فى هذه المناطق. هنا حدوث الكوارث أمر حتمى. مر أمامنا فوج من الأطفال من سن 6 إلى 10 سنوات، تأخر طفل مترا واحدا عن بقية الفوج فكادت سيارة يقودها مراهق أن تصدمه، صرخت المرأة بجانبى ملتاعة وكاد قلبى أن يخترق ضلوعى. نظرت إليها ووجدتها دمعا متفجرا وصرخت فى وجهى: ما العمل؟

خالد الخميسي  كاتب مصري