غيبوبة - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الخميس 16 مايو 2024 10:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غيبوبة

نشر فى : السبت 13 يونيو 2009 - 9:28 م | آخر تحديث : السبت 13 يونيو 2009 - 9:28 م

 الفرن

وقفت «أم حسن»، وهى امرأة فى العقد الرابع من العمر، ربعة، طمى النيل يلون ملامحها الصعيدية، فى طريق ترابى قرب سمالوط تبحث عن وسيلة مواصلات سريعة للوصول إلى المستشفى الذى يرقد فيه خالها المريض. كانت العفرة تمنح الهواء وزنا جعل التنفس مشقة حقيقية. استلت أم حسن دفقة هواء داخل رئتيها ثم نظرت إلى عين الشمس فى وسط السماء، فسقطت حبة من عرق تحولت إلى كرة من طين قبل أن تلامس الأرض. شعرت بدوار خفيف من سطوة شمس يونيو. سارت بخطى ثقيلة نحو شجرة وارفة تقف بين الطريق وبين الغيطان التى تمتد حتى تلامس أقدام الجبل. ووقفت تنتظر وهى تحاول بقوة جسدها الجبار أن توقف دوار رأسها بعد أن أصبحت فى المجال الطيب لطراوة الظل فى الجانب الأيسر للفرن الكونى.

الثلاجة

وقف الميكروباص أمامها. دخلت فاهتزت العربة من ثقل جسدها، جلست فى المقعد الملاصق للباب خلف السائق. دفع شاب يجلس فى الخلف الباب. سرت قشعريرة فى عمودها الفقرى وخدر بسيط فى جسدها كله.

أدركت أن السيارة مكيفة. لم تدخل سيارة مكيفة فى حياتها كلها. طلب منها السائق أن تغير مكانها لتفسح مكانا لآخرين. فلم تفلح أن تتحرك من فعل التخدير الذى أحدثه الهواء المثلج فى جهازها العصبى. بدأت تتأمل ما حولها. رجال وقد وضع كل منهم كمامة غريبة على أنفه. مطت شفتيها ببطء ورفعت حاجبيها وسألتهم عن السبب. نحن مرضى أنف وأذن وحنجرة وكلنا مصابون فى الأنف، ولابد من تغطيته. وصل إلى جوف أنفها رائحة ألهبت حاسة الشم لديها. رائحة تنضح بالغرابة. شعرت بدوخة مفاجأة أشد قسوة من دوار لطشة الشمس. نظرت خلفها فلمحت على أرض الميكروباص أكياسا مربعة فى حجم الكف تماما يغطيها الدم. وأكياسا حمراء مجمدة. علبا بلاستيكية. أدوات تشبه أدوات الجراحة. نظرت أمامها. السائق يضع الكمامة على وجهه ويضغط بقدمه بعنف ظاهر على بدال البنزين، فاندفعت السيارة إلى الأمام. روحها تنسحب فى خلفية السيارة وتترك جفنها يسقط فجأة. فتظلم الدنيا.

الغيبوبة

الغيبوبة هى النوم العميق، حالة فقدان وعى، لا يمكن لأم حسن أن تتفاعل خلالها مع ما حولها، أو أن تستجيب للعالم الخارجى. لو ولجت أم حسن لعالم الغيبوبة فإنها سوف تظل على قيد الحياة، لكنها لن تكون نائمة، لأن موجة نشاطها الدماغى سوف تختلف كثيرا عن تلك لدى الشخص النائم، فيمكنك إيقاظ شخص من النوم ، لكن لا يمكنك إيقاظ أم حسن فى حالة الغيبوبة. فأم حسن سوف تفقد كل الوظائف العصبية الإدراكية ولكن سوف تظل قادرة على التنفس، كما يمكن لها أن تقوم بحركات عفوية مختلفة. وهى حالة مثلى لنزع أعضائها وهى حية.

الفريزر

طفل فى العاشرة من عمره ملقى فى الغيطان. نعم هو الطفل الذى اختفى منذ يومين. والدته قريبتى من بعيد. عينه مقلوعة. يا لها من كارثة. إنه منزوع الأعضاء تماما. العين بالعين. سوف نأخذ بثأره ونقلع عين أعدائه. والمرأة التى اختفت من أمام زوجها من داخل محل ملابس حريمى. قالوا له إنها خرجت من المحل. هى بالتأكيد ملقاة الآن منزوعة الأعضاء فى مكان ما. إنها ضرتى التى تحرك الأحداث. تعلم أننى أجمل منها وأن زوجنا يعشقنى ويكرهها. ضرتى تركت الطبيخ فى الفرن ودخلت الفريزر لتتاجر فى أعضائى. سوف أمنعها، بل سوف أفتك بها.

البوتاجاز

عندما طرقت كلمة «سوف أفتك بها» جدار رأسها. استطاعت فتح عينيها عنوة. ما زالت السيارة تسير فى نفس الطريق الترابى. ما زال الرجال مكممون. حاولت أن تمنع نفسها عن التنفس. فهى تعلم أنها تتنفس موتها. حاولت أن تحرك ذراعها فلم تفلح. أغمضت عينيها وأمسكت باللحظة التى دفعت فيها حسن إلى هذا العالم. اللحظة التى استجمعت فيها عزمها كله حتى نفر حبلها الشوكى وتفجر شظايا وخرجت الرأس. عليها كما ولدته أن تلد روحها من الغيبوبة. دفعت ذراعها وفتحت الباب ورمت نفسها إلى الخارج. تدحرج الجسد حتى توقف عند جذوع شجر أضرموا فيها النار. أمسكت ألسنة النيران فى ملابسها، ولكن الأرض أنبتت نساء متشحات بالسواد استطعن السيطرة على الحريق. نظرت إلى الميكروباص فلم تجده.

الغيبوبة المطلقة

استمعت إلى هذه القصة الحقيقية من فلاحة صعيدية حدثت لها منذ أسبوع فى قرية بجانب سمالوط. يكوّن عالم الأساطير جانبا مهما من وعيها بعالمها. تداخلت خيوط الواقع مع الأوهام والمخاوف والجن لتشكل تفاصيل القصة. أنقلها كما هى احتراما لحالة الغيبوبة المطلقة التى تعيشها هذه المرأة الصعيدية وحالة الغيبوبة التى تعيشها الدولة وتعيشها الحكومة المتفرغة تماما للدفاع عن نفسها تاركة الخوف يفترس الناس.

خالد الخميسي  كاتب مصري