الطاحونة الملعونة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 4:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطاحونة الملعونة

نشر فى : الأربعاء 13 مايو 2009 - 6:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 مايو 2009 - 6:36 م

داخل كل منا طفل ينبغى الحفاظ عليه، ليس فقط لأن كل صغير جميل، ولكن لأن هذا الطفل الذى يمثل نقاء الفطرة فى أعماقنا يمكن أن يهدينا ببراءة إلى سواء السبيل، عندما نجد الطرق من حولنا معوجة باعوجاج الكبار، الكبار فى المداورة، والمناورة، الكبار فى الكذب.

عن نفسى، أغذى هذا الطفل بعدة أساليب، منها أن أردد الدعاء الجميل: «اللهم اكلأنى كلاءة الصغير لا يعرف ما يُراد به وما يريد». وهو ليس دعاء ينفى فضيلة المعرفة، بل يدعو إلى أعمق أنواع المعرفة، أى الإحساس، وبالمفهوم الإسلامى العظيم: استفتاء القلب.

هذا الطفل بداخلى، كما كل الأطفال فى الواقع، وفى دخائلكم، يحب الحكايات الخيالية. ومن بين هذه
الحكايات، لا أنسى أبدا قصة ولد وأخته، تيتما صغيرين ولم يترك لهما أبواهما غير رحاة، اكتشفا أنها مسحورة، فعندما يديراها، بصدق وبراءة عمريهما، ودون أن يغذياها بأية حبوب، تقذفهما بشطائر طازجة شهية وكعك بالفواكه والعسل.

ضاعت تفاصيل الحكاية منى، لكننى تشبثت بتلك الرحاة العجيبة، خبأتها عميقا فى نفسى، وكلما عرض لى التباس فى شئون الدنيا، ألجأ إليها، فأجدها تدور من تلقاء نفسها، تتطاير منها شطائر حلوة عند اكتشاف الخير، ولا يصدر عنها غير صوت احتكاك الحجر بالحجر فى وجود الشر، وكثيرا ما يتحول هذا الصوت إلى كلمة واحدة تلخص ما تراه.

وحيال جلسة البرلمان التى انعقدت فور انتشار أنباء الإنفلونزا المنسوبة للخنازير، والتى احتقن فيها بعض نواب الإخوان صارخين بحناجر الجهاد «الإبادة الإبادة»، وتجاوب معهم بعض نواب الوطنى ورموزه مرددين «الذبح الذبح»، وجدت رحاتى تدور بعنف، وتردد بامتعاض: كذب. كذب. كذب!

نعم كذب، فالحناجر الإخوانية لم يكن كل همها وقاية الأمة من مخاطر وباء لم تكد تعرف عنه شيئا، بل كانت تعبر عن بنود برنامجها المُضمَر، ومغازلة غوغائية الشارع المشحون بمظاهر التدين الزائف، لتدعم رصيدها السياسى.

أما الكذب الأوضح، فكان من الجانب الآخر، من ممثلى الحزب الوطنى الذين زعموا أنهم يؤيدون الذبح والإبادة، من أجل صحة الشعب. الشعب الذى لم ير لهم فى حبه دليلا ولا أمارة. بينما حكومتهم هى المُدان الأول فى عدم تنفيذ قرار نقل زرائب الخنازير بعيدا عن أنفاس وأرواح هذا الشعب.

كذب، كذب، كذب، ومرد كل هذا الكذب أن نواب الإخوان، كما نواب الوطنى، لم يكونوا يعبرون عن نشدان الحقيقة والسعى إلى الحق، بل يتخطّفون القوة باستقطاب الشارع التائه: زمرة الإخوان تراكم رصيدا حركيا وانتخابيا، وزمرة الوطنى تزايد على الإخوان، لجعل تزوير الانتخابات القادمة أسهل، وجثومهم على الصدور أطول.

وليس بعيدا أن يكون فى هذا التناغم العجيب، مؤشر مساومة مستقبلية ما، فينال الإخوان بعض كعكة السلطة والتسلط، مقابل السكوت عن حشو فم مصر بحصرم التوريث أو التكريس.

قد يُقال إنه مطلب مشروع للقوة من أجل الحق. فأى حق فى سرقة إرادة أمة بالقهر والتزوير من ناحية، واختطاف هذه الإرادة بزعم احتكار الأُخوَّة فى الإسلام من الناحية الأخرى؟ بينما يقودنا هذا وذاك إلى تسلط متجدد بأدوات الدنيا، أو بتحويل الدين إلى أداة دنيوية بين أياديهم.

سيسارع دبور من دبابير ضيق الأفق باتهامى أننى أدافع عن بقاء الخنازير، وسأرد مذكرا بأننى أحد من طالبوا مبكرا بإزالة حظائر الخنازير، فى مقال حملت فيه بعنف على رئيس الوزراء الذى يمر يوميا على المحور، دون أن يشم رائحة زرائب الخنازير تتصاعد من تحته. كما أن لى مقالا معروفا عن الحلاليف فى أعقاب غرق العبّارة، يُظهِر مدى كرهى لحلاليف الحيوانات والبشر على السواء، وبسببه تلقيت تهديدا هاتفيا جبانا من حلوف مجهول.

وستسارع نحلة، من النحل المجدب، وتقول: «طبعا، يسارى». وهنا أقول إننى لم أعد ذلك الشخص، فالطفل الذى فى داخلى أنقذنى، وأنبأنى بعد رؤية الكثير، أن كل تجمع إيديولوجى هو مشروع عصابة. وأنا ضد العصابات كلها، شيوعية كانت، أم إخوانية، أم عصابة منتفعين..

عصابة السلطة لا تحتاج إلى كلام، أما عصبة الإخوان، فهى معضلة، لأن ما نراه منها الآن هو أفضل وجوهها، فلا يزال فيها من هو نقى الأصل صادق القلب كزميل المدرسة الثانوية العزيز محمد خيرت سعد الشاطر، فك الله سجنه وأخزى ظالميه، وفيها واسع الأفق رحيب الرؤية عبدالمنعم أبوالفتوح الذى كلما فتح بابا للتسامح سارع غلاة الجماعة بإغلاقه فى وجهه، وفيها مهدى عاكف الذى هو بتكوينه التلقائى والمتباسط رحمة وود، مقارنة بالمُنتظَر.

والمُنتظَر لا يبشر بالخير، ليس فقط لأن أى تنظيم إيديولوجى هو تكوين عصابى، ولكن الأخطر أن هذه التنظيمات فى لحظات الصعود وعند الانتصار، يركب موجتها من هم أعلى صوتا، وأكثر دهاء، وأعنف مزايدة، لأنهم يكونون فى هذه اللحظات أقرب إلى غوغائية الجماهير فى لحظات الهياج. هذا هو درس التاريخ من الثورة الحمراء حتى البرتقالية، ولن يكون الإخوان استثناء، بل ربما يكونون أكثر تطرفا تحت راية الدين الذى يُسيِّسونه.

دعونا لا نكذب على أنفسنا ونزعم أن مصر حُبلى بقوى التغيير الواعدة بالحرية والعدل، فباستثناء شذرات هنا أو هناك، مصر يحتكر مستقبلها القريب قوتان: الحزب الوطنى ومن ورائه السلطة، والإخوان فى معظم الشارع. وهما خصمان يتغذى كل منهما بوجود الآخر، وليس مستبعدا أن يتفقا لغاية اقتسام السلطة، لا من أجل بلوغ الحق، بل من أجل امتلاك القوة، وجلسة النضال الوطنى ضد الخنازير كانت مثالا.
فالحق كان يستدعى التقصى، والصدق كان يحتم عقلانية التدبير، حتى يأتى وجوب تطهير المدن من زرائب الخنازير حميدا، وبلا عواقب هوجاء خطرة، نفايات ذبائح قرب مدارس الأطفال، وجثث خنازير ميتة فى طريق أبورواش، وثلاجات لا تحتمل جزءا ضئيلا من مئات آلاف الخنازير المطلوب ذبحها. ثم، الانتباه إلى أن الخنازير على قذارتها وحقارتها كائنات لم يخلقها الله سُدى وإن كان حرّم علينا أكلها، فهى ذات فوائد مشهودة فى الأبحاث الطبية والصناعات الدوائية. والقضاء التام عليها إخلال بالتنوع الحيوى الذى أحكمه رب العالمين ولا نعرف أسرار تكامله.

يأكل الناس، حتى فى رِكاب السلطة وحركة الإخوان، دعوا رُحى طفولتكم تدور فى نفوسكم واسألوها بصدق الفطرة، وهى بالصدق تجيب. استفتوا قلوبكم وإن أفتوكم، حتى لا نجد أنفسنا بين حَجَرى طاحونة ملعونة، تواصل سحقنا بالغوغائية والقهر والأكاذيب. 

 

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .