Juste ـ Right ـ صواب - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 1:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

Juste ـ Right ـ صواب

نشر فى : الأحد 12 يونيو 2011 - 8:45 ص | آخر تحديث : الأحد 12 يونيو 2011 - 8:45 ص

 أعلن طه حسين ذات يوم أنه يفضل الموسيقى الكلاسيكية الغربية على الموسيقى الشرقية، وكان رد فعل من استمع إلى هذا التصريح عنيفا فقد تم اعتبار طه حسين رجلا خائنا لثقافته، فكيف يجرؤ أن يعلن خيانته هكذا على الملأ؟ كما أتذكر شخصيا قصة قديمة ملخصها أن فى أحد البرامج التليفزيونية الرمضانية تمت دعوة صحفى شهير أعلن أنه لا يحب كثيرا الاستماع إلى أم كلثوم وأنه يفضل الاستماع إلى فيروز.

وتحول هذا الصحفى خلال ساعات من إذاعة البرنامج إلى مادة حوار للمجتمع المصرى باعتباره مخبولا أو مجنونا أن يتفوه بهذا الرأى الشاذ ضد «الست»، وأن المصريين لن يقبلوه بعد اليوم ولن يحترموا كلمة سوف يكتبها.

فهو بهذا الكلام خرج عن جموع الأمة. أتذكر هذه القصة رغم تفاهة موضوعها وكذلك موقف الناس من تصريح طه حسين لأن كل من القصتين صدمنى بعنف فى حينها، فقد عبروا عن مدى انغلاق البنية الثقافية المصرية وعلى مدى عدم التسامح فى قبول ذوق مختلف عن الذوق العام. وعلى مدى العقود الماضية كنت أتابع بقلق بالغ غياب أى آليات لإدارة الاختلاف فى المجتمع المصرى، فهذه الآليات المؤسسية غير موجودة أصلا فى الأبنية الثقافية المصرية.

فداخل العائلة هناك احتكار لسلطة أبوية غاشمة، وفى المدرسة يقوم المدرس ــ ويسانده النظام التعليمى ــ باستكمال السلطة الأبوية، فلا مجال لحرية التفكير ولا مجال للنقاش والاختلاف والحوار وإنما هناك معلومات صائبة يجب حفظها، وكأنهم لا يعرفون أن العلم واللغة والمعرفة تتطور وتتغير كل يوم.

ونفس هذا المنطق المغلق هو الذى جعل وزير التعليم العالى السابق «هانى هلال» يطالب أساتذة الجامعات بتقديم إجابات نموذجية على أسئلة الامتحانات، وكأن هناك إجابات نموذجية وليست آلاف الإجابات التى تعبر عن قدرة كل طالب على حدة على فهم المادة العلمية حسب رؤيته. وهى نفس كارثة وجود مقررات بعينها يتم فرضها على الطلاب الجامعيين بدلا عن موضوعات يتم دراستها وعلى كل طالب أن ينهل من المعرفة ما شاء فى كل موضوع.

غياب آليات لإدارة الاختلاف هو الذى يجعلنا اليوم نستمع إلى مصطلحات مرعبة (اجتماعيا وسياسيا) يتداولها الكثيرون تربط نقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة (على سبيل المثال) بانقسام الأمة. وكأن الأصل فى الأشياء ألا تكون الأمة (أو بالأحرى الدولة) مكونة من تيارات سياسية وفكرية شتى. أنا أرى أن المجلس العسكرى يجهض الثورة وغيرى يرى أن المجلس العسكرى يحافظ على الثورة.

تيارات فكرية متعددة. وهذا أمر طبيعى. ولكن استعمال مصطلح «انقسام» يوحى بقطع جسد الأمة (الدولة) الواحد إلى أجزاء ومن ثم يمكننا بالتالى أن نتحدث عن خطر غاشم على الدولة نتيجة لتمزيق جسدها. وكأن التشبيه الشعرى الذى يربط الأمة بالجسد يمكن تطبيق تداعياته على الشأن السياسى أو الاجتماعى. هى إذن لعبة مصطلحات.

دافع هيجو فى روايته «البؤساء» عن جميع أولئك الذين يحتقرهم المجتمع من أجل تحقيق إنسانية الانسان. سعى العديد من كبار الكتاب فى العالم لطرح مفاهيم جديدة لرؤية العالم. ما أحوجنا اليوم لمثل هذا الجهد، نحن فى أشد الحاجة إلى فعل ثقافى نقدى ندخل تاريخنا داخل بوتقته فى محكمة عادلة ونحاسبه على ما اقترفه من فظاعات ضد الانسان وضد الكوكب، وكذلك على ما طرحه من أفكار، لنخرج من سجن الحدود، والأنساق الثقافية العتيقة، والأبنية المحفوظة، والعنصرية، والذاتية، والعنجهية العرقية والثقافية. نبدع أفكارا جديدة خارج الصندوق المتخم بالغباءات. ولكى نبدأ هذا المشروع الثقافى النقدى يجب أن نعيد التفكير فى تعريف كلمتى الصواب والخطأ. فهل الصواب بيّن؟ وهل الخطأ بيّن؟ فى الواقع أنه على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والمعرفية فالصواب والخطأ مفاهيم شديدة النسبية تتغير بتغير الظروف والملابسات والأزمنة والأماكن.

فكلمة صواب باللغة الفرنسية Juste تعنى العدل، وباللغة الانجليزية Right تعنى الحق، وباللغة العربية جذرها الصَّوْبُ وهو نُزولُ المَطَر. صَابَ المَطَرُ صَوْبا، وانْصابَ: كلاهما انْصَبَّ. ومَطَرٌ صَوْبٌ وصَيِّبٌ وصَيُّوبٌ، وقوله تعالى: أَو كَصَيِّبٍ من السماءِ.

فالصواب إذن هو ما حدده قانون كل دولة على أسس العدالة (تبعا للجذر اللاتينى والأنجلو سكسونى) وما تم فرضه من شرائع سماوية (الجذر العربى). ما عدا هذا فلا يوجد صواب وخطأ وإنما مفاهيم قابلة للجدل والحوار والاختلاف. ولكى نحترم أفكار أى فرد فى المجتمع يجب أن نعيد هؤلاء المنبوذين إلى خانة البشر. وكذلك أن نحترم كل الأفكار والأذواق التى تخرج عن إجماع من يمتلك القدرة عن التعبير عن رأيه بواسطة الاعلام أو عن طريق رجال السياسة. يتحدث الكثيرون اليوم عن ديكتاتورية الغوغاء بمعنى سطوة ونفوذ الجماهير الغفيرة لفرض ذوق الأغلبية على المجتمع.

ورغم أننى لا أتفق مع استخدام مصطلح الغوغاء إلا أننى أتفق مع فكرة أننا يجب أن نعمل جميعنا على محاربة كل ديكتاتورية، أن نحترم كل رأى، أن ندرك الحقيقة البسيطة أننا لسنا جسدا واحدا وإنما ملايين البشر عليها أن تعيش معا فى دولة قانون وفى ظل احترام حق كل إنسان أن يمارس حقوقه السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية المشروعة. طريق طويل بدأناه منذ أكثر من قرن وعلينا اليوم استكماله.

خالد الخميسي  كاتب مصري