سويتـو - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 7:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سويتـو

نشر فى : الخميس 9 ديسمبر 2010 - 11:14 ص | آخر تحديث : الخميس 9 ديسمبر 2010 - 11:14 ص
راح «أوبا» السائق الـدليل ينطلق بنا فى الطريق السريع إلى «سويتو». وسويتو هى اختصار لتعبير ضاحية الجنوب الغربى، تأخـذ موقعها منسوبا إلى مدينة جوهانسبرج، العاصمة الاقتصادية العملاقة لجمهورية جنوب إفريقيا.

قـال لنـا أوبا النحيف الأسود وهـو يقود بسرعـة ومهارة ملتفتا إلينا حـين يتكلم : « عنـدما يكـون هناك أربعة ملايين إنسان أسود يعيشون فى مساحة مائة كيلو متر مـربع فتوقعـوا أن تروا الجميل والقبيح. الجيـد والسيئ».

وفى واقع الأمـر لم نستطع أن نـرى غير الألم، بعـد تذكـارات أبسطة الزهور فى كيب تاون وأفراح أعياد جبهة الماء على شواطئها وناطحـات السحاب الزجاجية الـبراقـة وسط جـوهـانسبرج وشـوارع الجاكـارنـدا البنفسجية فى بريتوريا.

كـانت سويتو لطمة مفاجئـة بعد طيران ناعم على طرق سريعة وجسـور تأخـذ مكانها بين تلال خضراء تتناثر فيها فيلَّات المواطنين البيض البيضاء الناصعة المسقوفة بالقرميد والمحاطة بخضرة الحدائق.

وحتى نهبط إلى قلب سويتو صعـدنا جسرا للمشاة. جسر لآلام السود وظلالهم البشرية المتهافتة. كـان رجل عجوز يدفع بعربة يد محملة برقع كـرتون يتوقف ليسـد بالكرتون الفجوات بين قضبان حـديد سور الكوبرى. لقد كان يبنى بيتا، فهذا الجزء من رصيف الكوبرى هو مأواه. أمـا «أنجيلا» التى تبيع نـوعا من الحلوى الرخيصة فهى تحتل زاوية عند رافد الكوبرى. هنا محل رزقها البائس ومسكنها الذى ظللته بالخرق والكرتون. لقد فقدت زوجها وأبناءها فى إحـدى مذابح سويتو التى ارتكبها البيض ضد الأغلبية السوداء، تقول: «لقد رأيت الكثـيرين يموتون أيضا على هذا الجسر».

الموت حتف الأنف. والموت بلا سبب كـما يبدو للعابر العجـول. لكن لحظة تأمل واحدة تكفى لإدراك الوجود القوى لكل حراس الموت فى سويتو: الفقر. البطالة. التخلف. وعندما يكون كل هؤلاء موجودين فى بقعة من بلد متقـدم وغنى مثل جنوب إفريقيا فإن المتهم الأول يكون نظام الفصل العنصرى أو «الأبارتهايد» الحاكم للأغلبية السوداء، باستعلاء وبطش وأسلحة وسجون وكلاب ورصاص الأقلية البيضاء.

لاحظنا أن أكثر من نصف البيوت الأكواخ فى سويتو ليس بها دورات مياه، لكن أوبا لفت نظـرنا إلى مفارقـة مدهشة هى أن كل هذه البيوت الأكواخ بها تليفونات، فالتليفون مهم للاطمئنان على الأهل: من قُتل منهم، ومن لم يُقتل بعد!

شىء ما، لعله الجميل الوحيد الذى لاح لنا عبر جولة البؤس تلك، فقد كانت أرواح الناس مرحة، بل طروب، وراقصة أحيانا.

عندما كنا نودع سويتو مررنا بنُزُل جماعى لسُكنَى الفئات الأكثر فقرا فيها. كان شيئا أشبه بحظيرة للبشر، انطبعت صورتها المريرة على خلفية لم تبرح البـال بتأثر: الأطفال. أطفال السود خفاف الظل. أطفال فى أكواخ الصفيح. وفى الحارات الترابية. أطفال عند كـل زاوية ووراء كل حجر. تلك إذن هى القنبلة السكانية الموقوتة التى قرأت عنها وتقول إن نصف عدد السكان السود فى عمر الطفولة. وأنه فى غضون بضع سنوات ستنفجر هذه القنبلة بوصول عدد السود إلى عشرة أضعاف عدد البيض، فيالها من دانات بشرية.. فى هيئة أطفال!

كان ذلك منذ سشبعة عشر عاما، فلماذا تعود صور سويتو القديمة لتلح على ذاكرتى فى الأيام الأخيرة؟ لقد تابعت فى هذه الأيام مهزلة التزوير التى شابتها ندرة من الانتخابات بزعم اختيار أعضاء برلمان يمثل الأمة ! وفى غضون هذه الأيام وافق مجلس الوزراء على «تعديل قانون المناقصات لحل مشكلة مدينتى «طبقا لتعبير الأهرام فى 30 /11/2010، وفى هذه الفترة عينها، وقع بين يدى كتاب عنوانه» التحضُّر العشوائى «للدكتورة جليلة القاضى. فهل فى «صدفة» تلاقى هذه المعطيات الثلاث من معنى جعل صور سويتو تطفو على سطح الذاكرة بعد مرور كل هذه السنين؟ أظن نعم.

فالبرلمان القادم سيكون من باكورة أعماله إقرار تعديل قانون المناقصات، ليس فقط لحل مشكلة عقد أرض مدينتى المعيب والمريب والذى أبطلته المحكمة الإدارية العليا بحكم واضح تلاه حكم ثان بعد محاولة التفاف اللجنة الحكومية عليه، بل سيشمل التعديل بأثر رجعى كل ما شابه هذا العقد الفاسد، ومن ثم يقنِّن التشريع الأعوج كل ما تم إهداره من أراضى الدولة، ويفتح بابا لإهدار المزيد بترسيات الأمر المباشر التى يُعطى فيها من لا يملك لمن لايستحق، ولصالح أقلية من المستفيدين من هذه العطايا البليونية من ذوى الحظوة، وهم أقلية حتى بين رجال الأعمال والصناعة الذين يكثر بينهم محترمون ووطنيون يشق عليهم العمل فى هكذا أجواء. أما الأغلبية من عموم الناس، فلن يكون لهم بمعطيات هذه الأيام الأخيرة إلا مصير «سويتو» وأشباه سويتو!

وسويتو وأشباه سويتو فى مصر كانت موضوع الكتاب الذى التقيته على غير ميعاد فى إحدى المكتبات وقرأته فى الأيام الأخيرة، عنوانه «التحضر العشوائى» وهو فى الأصل رسالة دكتوراة حقيقية وشديدة الجدية، قدمتها بالفرنسية الدكتورة جليلة القاضى عام 1984 للحصول على الدرجة العلمية من جامعة باريس فى هندسة تخطيط المدن وتعمير الأراضى، وتحولت إلى مرجع عالمى فى دراسة نشأة العشوائيات وتطورها، ثم ترجمتها الأستاذة منحة البطراوى ونُشرت مؤخرا فى كتاب عن طريق المشروع القومى للترجمة بالتعاون مع دار العين، وقامت مؤلفة الكتاب بتحديث مادته بمقدمة ضافية كان مما لفت نظرى فيها أرقام مخيفة عن عدد سكان العشوائيات فى مصر، فعددهم حتى سنة 2006 وصل إلى 17 مليون إنسان على مستوى الجمهورية، مما يرجح أن عددهم الآن يقارب أو يتجاوز 20 مليونا. أما فى القاهرة وحدها وفى السنة ذاتها 2006، فعدد سكان العشوائيات وصل إلى 8 ملايين، مما يرجح أيضا أن عددهم الآن قد بلغ 10ملايين أو يزيد!

هذه أرقام مخيفة لملايين يعيشون فيما هو أسوأ من سويتو. يتكدسون فى تجمعات سكانية دون المستوى الآدمى، وتشكل تجمعاتهم بؤرا خطيرة على القيم الإنسانية والأمن الإنسانى والقومى، وهى دليل على عشوائية عقول متنفذين قصار النظر عميان البصيرة، لم ينتبهوا ولا أرادوا أن ينتبهوا إلى خطورة إقصاء أبناء الأغلبية من حقهم المشروع فى كعكة الثروة القومية، واستكملوا هذا بصبيانية الإقصاء السياسى وولدنة البلطجة وجلافة اللعب بميزان العدل والحق ومجافاة استقامة القانون، وهم بذلك كله يتصورون أنهم أذكياء، بينما هم عكس ذلك تماما إذا ما قورنوا بأقلية نظام الفصل العنصرى البائد، فى جنوب أفريقيا..

صحيح أنه كانت هناك ضغوط دولية لعزل نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، صحيح أن جماعات حقوق الإنسان فى العالم كله كان نشيدها الجامع هو الإفراج عن مانديلا، وصحيح أن حركة المؤتمر الإفريقى لم تكف عن كفاحها ضد نظام الأقلية البيضاء الأنانية والمتعصبة، وصحيح أنه كان هناك كثيرون من الأحرار والنبلاء داخل هذه الأقلية البيضاء يعارضون سياسات الفصل العنصرى ويصطفون مع الأغلبية السوداء فى الكفاح. لكن تخلخل نظام الأبارتهايد وتخليه الطوعى عن استئثاره بالثروة والقوة والتميز كان لسبب آخر أكثر حسما، فهم أدركوا مدى الرعب الذى صنعته تداعيات الخطيئة الأولى التى اقترفها آباؤهم المؤسسون لنظام الفصل العنصرى. وتيقنوا أنهم منسوفون لامحالة بقنبلة الكثرة السوداء المُهانة، التى قاربت على الانفجار فى وجه القلة التى تمادت فى غيها. فأفرجوا عن مانديلا، ودخلوا معه فى مفاوضات حكيمة وسلمية من أجل نظام ديموقراطى جديد متعدد الأعراق، تخلوا فيه عن وحشية النفوذ، وربحوا إنسانية الوجود!

لقد زال نظام الفصل العنصرى «الأبارتهايد» التقليدى من كوكب الأرض، باستثناء النظام الصهيونى الدموى على الأرض الفلسطينية، لكننى أتصور أن هناك أنظمة لأبارتهايد من نوع مختلف تتبجح فى الظهور، وتؤسس عنصريتها الجديدة لا على اللون أو الدين أو العرق، بل على التحيز لأقلية من أصحاب المصالح الاستحواذية فى الثروة والنفوذ، دون أى حساب من عدل أو حق لأغلبية يتم إقصاؤها بالقوة والحيلة عما تستحقه من وجود عادل وفاعل فى حاضرها ومستقبلها.

نظام الأبارتهايد القديم فى جنوب إفريقيا عندما غادر مواقع نفوذه وقلاع استبداده ترك بلدا زاخرا بكل مقومات التقدم فى كافة المجالات، الصحة، التعليم، الصناعة، البحث العلمى، الثقافة، الزراعة، البيئة، الرعى، القوة العسكرية، استقلال القضاء، قوة القانون، وخبرة الديموقراطية التى كانت مغلقة على الأقلية وانفتحت للجميع، وشكَّل كل هذا قوة دافعة لسلمية وقانونية النظام الجديد! بينما أنظمة الفصل العنصرى الجديدة شديدة الفظاظة وقصيرة النظر إلى أبعد حد، لا يعنيها أمر هذه الفضائل كلها، لأن كل ما يعنيها هو اكتناز الثروة والقوة والهيمنة، وبكل الطرق مهما كانت لا مشروعة ولا أخلاقية، وهى بتماديها فى هذا العمى المختال بنفسه لا تؤسس حولها إلا الفوضى والعشوائية، والأحقاد المتراكمة، وثقافة البلطجة وفساد القيم، ومن ثم هى واقعيا ظاهرة تدميرية حتى لنفسها، فهى بأنانيتها تصنع الوحش الذى سيأكلها، ويأكل البلاد.

شىء جنونى ولا معقول! يتطلب لمواجهته أقصى حدود السوية، وأعلى إبداعات العقل
محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .