خناقة - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 1:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خناقة

نشر فى : الأحد 9 مايو 2010 - 9:25 ص | آخر تحديث : الأحد 9 مايو 2010 - 9:25 ص

 بدأت الخناقة عندما منحت الزوجة أذنها للابن أو للابنة للاستماع إلى ما يرونه إجحافا وقع عليهم من الأب. والأبناء محترفون بالسليقة فى محاولة الحصول على مكاسب جديدة من كل طرف.

أنانيون ولاشك فى علاقاتهم بآبائهم. بدأت الأم ــ بعد ما استمعت إلى حبات قلبها ــ حملة «توعية جماهيرية» ضد هذا الأب غير البار بأبنائه عبر شبكة الأهل والمعارف بقدرات تفوق فى أحيان كثيرة ما لأعتى وكالات الدعاية والإعلان من إمكانيات. تشكلت بعدها نواة خناقة بين الزوج والزوجة فيما يراه كل منهم أصح لتربية الأبناء. بدأ الحوار كما أتصور ديمقراطيا بصوت هادئ مع بعض العبارات الرصينة وبعض الجمل التحليلية ثم علا الصوت تدريجيا حتى تحول بسرعة إلى موج هادر.

تلألأ زبد الغضب فى الأعين وتناثرت الكلمات الجارحة بمخالب صقر ينهش فى لحم الوجنات، كلمات ثقبت قاع السفينة بلا رحمة. ثقوب قد تهدد سيرها الآمن كما يمكن أن تؤثر على فرصة وصولها إلى بر الأمان.

على شرف حماية الأبناء يبدأ الطعان الذى يودى بسلام هؤلاء الأبناء. وفى أغلب الأحيان تكون وجهة نظر كل من الأب والأم مختلفتان تماما فيما يخص تفاصيل المعاملات اليومية أو اللحظية بينهما وبين الأبناء. حالة عامة أراها فيمن حولى من عائلات منذ وعيت على الدنيا واستكملت أنا وزوجتى هذه المسيرة المقدسة. والحقيقة أن اختلاف وجهة النظر بين الأب والأم هو أمر منطقى تماما لأن كلا منهما يلعب دورا مختلفا إزاء أبنائه.

قال لى طبيب فرنسى متخصص فى هذا العلم إن الأم وهى تمارس فعل الأمومة كما تعرفه بالغريزة تقوم بدفع أبنائها بكل قوة مرة أخرى إلى الرحم، والآباء يمارسون أبوتهم كما تعلمونها وهم يدفعون أبناءهم إلى المجهول، وهذا المجهول هو المستقبل. فكيف تقبل أم بما يقوم به أب يدفع أبناؤها فى عكس الاتجاه الذى تراه صحيحا؟ هى معركة شرسة بين دفع الأبناء إلى الماضى وإلى دفء الاحتضان وإلى الحماية المطلقة وبين دفعهم فى الناحية المقابلة نحو الاستقلال عنهم.

فى كل مرحلة سنية تختلف نوعية الخلافات بين الأب والأم فى مجال التربية وتختلف بالقطع الطريقة التى يتعامل بها كل منهم مع أبنائه. الاتجاه العام أن الأم تسعى فى معاملاتها داخل المنزل إلى خدمة الأبناء، والأب يريد فى العموم أن يخدمه أبناؤه. هذا السلوك يرسخ المنطق الاجتماعى السائد أن الأم سيدة التفاصيل والوالد سيد العموميات. يقوم هو بالتنازل راضيا عن قيادته للسفينة، ويقوم بما قام به عزيز عثمان مع ليلى مراد عندما وعدها فى أوبريت «عنبر» مغنيا: «يعنى الماهية من الصراف على العلاوة على الإنصاف ح يكونوا ملك أيديكى نضاف».

إذن الأب هو الممول والأم هى صاحبة مفاتيح الخزينة. هو المنتج وهى المنتج المنفذ ومديرة الإنتاج. والممثلون يتعاملون مع مدير الإنتاج وليس مع المنتج.. أقصد أن الأبناء يتعاملون مع من يدير التفاصيل اليومية. أما فى حالة أن تكون هى أيضا الممولة فهى لا تتنازل أبدا عن دورها كمديرة إنتاج. وفى سعيها أن يكون لها شريك فى حياتها تطالب زوجها أن يقوم معها بما تراه واجبا لصالح الأبناء. أى تطالبه دون أن تعى أن يكون أمًا ثانية. ولكن للأسف هى تزوجت رجلا وليس «سيدة»، وهذا الرجل لا يستطيع أن يلعب دورا غير دوره كوالد.

هذا الدور الشديد الأهمية للأبناء والذى يدفعهم دفعا للفطام من ثدى أمهم. ولكن هى الأخرى تلعب دورا حيويا فى حياة أبنائها وهو دور الحماية. وتبدأ الخناقة التى كثيرا ما تؤدى إلى انسحاب الرجل إلى مرفأ بعيد. وينسحب بذلك عن دوره كأب بعد أن تدفعه زوجته دفعا نحو مستنقع التفاصيل كما تراها هى، وهو المستنقع الذى تعرف جيدا دروبه وسراديبه ويعرف هو أيضا أنه لا يمكنه بحال أن ينتصر فى معركة تدور على أرض ترفع أعلامها هى كملكة وحيدة متوجة.

كان صديقى قد اشتكى لى زوجته وقص علىّ تفاصيل الخناقة. حكى لى أنه عاد من منزله مرهقا فاتصل بابنته وطلب منها أن تشترى له دواء من صيدلية بعينها عند عودتها من عملها. عادت الابنة بالدواء. ثم جلست مع الأم لوهلة بدأت بعدها خناقة بينه وبين زوجته ارتفعت ألسنتها إلى عنان السماء.

ألا يعرف أن ابنته تعمل منذ السابعة صباحا؟ ألا يعلم أنها اليوم تأخرت كثيرا وعادت فى التاسعة مساء؟ ألا يعرف أن الصيدليات تحضر الدواء حتى باب المنزل؟ ألا يعلم أن هذه الصيدلية التى طلب من ابنته الذهاب إليها ليست فى طريق عودتها؟ ألا يعرف أن الطرق مزدحمة؟ أهو لا يشعر بما تعانيه ابنته من معاناة العمل لمدة تزيد على عشر ساعات يوميا؟ ألديه أصلا إحساس؟ لم يكن لديه فى الحقيقة الفرصة للرد. ولكن عرف فى الليلة التالية أن ابنته حزينة من الخلافات بينه وبين والدتها. أقص هذه القصة هنا كحالة من آلاف الحالات المشابهة التى استمعت إليها.

ثالوث مقدس: الأب والأم والأبناء. كل له دور مرسوم وكل تربطه بالآخر علاقة عضوية مقدسة، وكل يرى الأمور من وجهة نظره فقط، وكل يتمنى من الآخر أن يقيم داخل نفس الخندق الذى يتمترس هو فيه، وكل تتحكم فيه الغريزة وهو يرسم مسارات المستقبل.

العائلة المصرية فى خطر لو لم نقدم لها كل عون.

خالد الخميسي  كاتب مصري