اختيار الغزال (قصة مُستعادة لإمعان النظر) - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اختيار الغزال (قصة مُستعادة لإمعان النظر)

نشر فى : الخميس 7 يونيو 2012 - 8:45 ص | آخر تحديث : الخميس 7 يونيو 2012 - 8:45 ص

من الوادى العطشان إلى الوادى الريان، ومن الريان يدفعها إلى العطشان، وتستمر المطاردة حتى تتعب فتتوقف وبقربها تتوقف «اللاند روفر». ويهبط ليأتى بها من قرنيها طيِّعة دون أن يُطلق عليها النار، دون أن تتلوث يداه بالدم، وهو يوازن ما بين طاعة الأمر الفاسد ومخالفة ضميره، مخالفة حقيقة دوره..

 

تلك كانت خطة إبراهيم لصيد الغزالة المطلوبة، يفكر بها وهو يصعد صاغرا بسلاحة إلى مقدمة العربة. ثم يأمر السائق أن ينحرف فى انطلاقه حتى يبلغ طرف العطشان، ومن هناك يكون الدوران حول الريان إلى حيث تكثر الغزلان فى المحمية. «المحمية»! رددها ابراهيم فى داخله ممزوجة بمرارة السخرية من فرط فجاجة المفارقة واتضاحها: حماة المحمية ينهبونها، وماذا يكون الأمر غير ذلك؟ أليس واحدا من المنوط بهم حراسة هذه المنطقة المعلن عنها كمحمية طبيعية؟ أليس دورهم أن يمنعوا أى يد تحاول الامتداد إلى هذه البقعة لصيد واحد من حيواناتها المهددة بالانقراض، وعلى وجه التحديد: الغزلان؟ الغزلان التى هو ذاهب لصيد واحد منها بالأمر المباشر من رئيسه! ولأجل خاطر الشواء المُشتهى على مائدة رئيس رئيسه؟!

 

وزفر ابراهيم زفرة كان مقدَّرا لها أن تطول لكنه شهق سريعا مع هذا الشعور المفاجئ بالهبوط.. كانت «اللاندروفر» قد اجتازت حافة الوادى العطشان القاحلة المرتفعة وراحت تهبط فى منخفض الوادى الريان عند سفوح التلال والجبال الصغيرة. وأمر السائق أن يُبطئ. أن يخفض من صوت المحرك. ليتسللا فى شبه صمت إلى قلب الريان.

 

●●●

 

السيل يداهم الوادى من المنطقة نفسها التى تسلَّلت عبرها «اللاندروفر». تبوح بمساره هذه الحجارة الوردية والحصى الذى يفترش الدرب المعشب. ذكرى الاندفاع الكاسح لمياه الأمطار المنهمرة على جبال الجرانيت العالية فى الجنوب، تأتى دافعة أمامها بشجيرات الشوك المقتلعة من الرمال، ونبات الصبار، والعشب البرى. نهر مُجتاح يندفع ليدخل الوادى فتهرب من نُذُره الفئران حاملة صغارها إلى قمم الجبال والتلال المحيطة، تهجر الطيور أعشاشها، وتفر الأرانب الجبلية والثعالب والذئاب، وتُطلِق الغزلان أمامه سيقانها للريح. صورة مماثلة لصورة الأثر الذى أحدثه اندفاع «اللاندروفر» فى بطن الوادى. لكن السيل يفعل ذلك ولا يلبث حتى يشف عن صورة أخرى.. يتلاشى.. تتشرَّبه السفوح وترتوى فتخرج من بين جنباتها الخضرة. يصير «ريان» إذا ما قورن بالوداى المرتفع المجاور له والذى يظل «عطشان» لا تصعد إليه وتجافيه المياه. تدب الحياة فى أعطاف الريان بعد الفزع، تأتى الأرانب البرية والغزلان التى تغتذى على العشب النضير الطالع، ثم تأتى الثعالب والذئاب التى تغتذى على الأرانب والغزلان، وفى أعقابها تأتى الضباع.. تحط أسراب الطيور المهاجرة قليلا للراحة، ويعشش حمام «القَطا» فى تجاويف الصخور. وفى لحظات الشبع، يبدو الريان واحة تسكنها سلسلة من الكائنات المتوادة، تهجع أو ترعى بقرب بعضها البعض فى سكينة. وهى الصورة التى وخزت قلب ابراهيم لحظة اخترقت «اللاندروفر» قلب الوادى.

 

كان كل شىء هادئا ووديعا ومتناغما بسحر لوحة حية. ثم دب الرَّوع فى هدوء هذا السحر مع ظهور السيارة. وراح الارتياع يَطيش و«اللاندروفر» تضاعف من سرعتها لتطارد غزالة شاردة. أربكت المباغتة الغزالة فارتكبت أول أخطائها.. جنحت للخروج من الريان بدلا من أن تلوذ به. وأسلمت مصيرها لجفاء العطشان. وفى دروب العطشان الممهَدة بلا عوائق من نبت أو فتات صخور، وفى سفوح الكثبان المنسرحة، لم يعد للغزالة إلَّا أن تجرى أمام وحش الحديد. لكنها لم تكن تجرى. كانت تطير.

 

بدت لإبراهيم فى ركضها الغريب أمامه وكأنها صورة حُلمية. أو عرضا بطيئا لفيلم بالغ النعومة عن غزالة تسبح فى الهواء القريب من سطح رمال حريرية متماوجة. تماوجا بكرا لم تطأه من قبل عجلات أو قدم. لكن أطراف قوائم الغزالة كانت تطؤه الآن. تغمزه غمزا خاطفا وهى تتضام فى نقطة واحدة يتقوس أعلاها جسمها. قوسا ساحرا المرونة مشدودا لا يطلق سهاما. بل ينطلق هو نفسه. غمزة وينفتح جسم الغزالة طائرا فى الهواء إلى أعلى وإلى الأمام. إلى الأمام فى انفساح الوادى الرملى وعبر المنعطفات بين التلال. واللاندروفر فى أعقاب الغزالة تجمح وتجأر. يضاعف السائق من سرعتها بشكل تلقائى فى البداية. لكن المطاردة توفِّز شيئا ما فى دم ابراهيم، ويحس كأن الغزالة تلطمه كلما انفتح جسمها طائرا ومُفلِتا منه. تلطمه بطرف قائمتيها المطوَّحتين إلى الخلف فى انطلاقها. وتتعاقب على نفسه المُهانة مناظر لحظة سماعه للأمر بالخروج لقنص غزالة، ولحظة تردده فى مراجعة الأمر، ولحظة الصدوع والتنكيس.

 

تصير المطاردة جنونا يصعد فى داخله. وينتصب لهذا الجنون واقفا فى مقدمة اللاندروفر يصرخ فى السائق بالإسراع والانعطاف والمناورة. وتضيق المسافة بينه وبين الغزالة. تضيق حتى تصفع الرمال التى تقذفها أقدام الغزالة وجهَه. تضرب جفونه الطارفة وتدخل خياشيمه وفمه ويحس بجرشها بين أسنانه فيصرخ فى توحُّش. ويقرر أن يطلق عليها طلقة باترة واحدة: طلقة لا تقتلها لكنها تصيب ساقا من سيقانها فترتبك وتتوقف. يمسك بها وينظر فى عينيها وهى مغلوبة أسيرة. كم كان يشتهى هذه النظرة. وكم كان دافعه إليها غامضا وغالبا.. لا يُقاوَم. وراحت يداه تتشنجان وهو ينصب «السيبيا» المثلثة على غطاء المحرك، وعلى قمة السيبيا يثبِّت الرشَّاش.

 

●●●

 

  طلقة، وطاشت. طلقة، وأصابت.. لكن لم يبدُ لها من أثر. مجرد اهتزازة عابرة، خفيفة، فى مسار الركض الطليق السابح، ثم عاد التجانس للمسار. واشتعلت الحرب. طلقة أخرى تصيب. دفعة صغيرة من الطلقات. زخَّات. زخَّات. والهدف بقعة صغيرة واحدة مساحتها سنتيمترات قليلة من ساق الغزالة اليمنى التى يصوب عليها ابراهيم. على الركبة يطلق. يصرخ فى السائق أن يطير، يحيد، يندفع، ينعطف، وهو يطلق.. يطلق، يطلق، يطلق. تفر التلال بأشكالها الغامضة التى نحتتها رياح السنين. تنطوى الكثبان. وتمضى مسرعة تماوجات بحر الرمال. ثم ينفصل هذا الجزء من ساق الغزالة فيصرخ إبراهيم صرخة انتصارٍ وحشى. يرتبك ركض الغزالة برهة ثم تستعيد توازنها. صارت القائمة الخلفية الوحيدة تعمل عمل الاثنتين. لا فارق يكاد يُذكر إلا أن الركض تحور قليلا مساره. صار قوسا. وفى انحناء القوس كانت اللاندروفر تميل إلى حد الخطر فمال ابراهيم إلى فكرة إصابة الغزالة سريعا، فى مقتل. وفى اللحظة القاطعة، قطعت الغزالة قوس ركضها بانعطافة حادة. ودخلت فى فوهة أقرب كهف صادفها.

 

●●●

 

بدا لابراهيم ألا يتعجل بعد أن توقفت اللاندروفر وتوقف التراكض المحموم داخله. بدا له أن الغزالة قد انحشرت فى فوهة الكهف لا تستطيع التقدم ولا تستطيع الرجوع. سيهبط ويجذبها من الساق الوحيدة الباقية. وسينظر فى عينيها مليا قبل رفعها إلى ظهر السيارة. مشى خطوات فى الرمل المُعيق وتواثب بين الصخور. ثم توقف ينظر إلى هذا الجزء المرتعش الباقى من الساق المبتورة عند الركبة. تعجب كيف أنه لم ينزف وكأن الطلقات الملتهبة كانت تكوى حيث تقطع. أى حجم من الألم. مال ومد يده فأحس بأول النعومة فى الوبر الغزلانى بأعلى الساق السليمة، وأحس ببلل عرقها العاطِر. وما أن بدأ يجذبها حتى قفز مفزوعا إلى الخلف. لقد سمع صوتا لسعار ذئاب تختفى داخل الكهف الذى لاذت به الغزالة. كان واضحا أنها لم تنحشر فى الفوهة التى بدت واسعة. ولابد أنها رأت منذ اللحظة الأولى وميض العيون الذئبية فى العتمة. وقد تكون تبينت بياض أنيابها وهى تكشر. كان لديها إمكانية للتراجع. لكنها لم تفعل. ثم استعر السعار.

 

لاذ إبراهيم بالسيارة وسلاحه متاهب للإطلاق إن برزت من الكهف الذئاب. لكن الذئاب لم تبرز. فقط.. كان هذا الجزء الظاهر من جسد الغزالة فى فوهة الكهف يَنشدُّ وينتفض. يسكن مرتعشا ثم ينتفض، ويكرر الارتعاش والانتفاض تبعا لخفوت أو تأجُّج السعار. ثم راح الدم يخرج من أرضية الكهف، من بين أقدام الغزالة الثلاث الباقية، غزيرا صافيا ياقوتىِّ الحمرة، وينحدر فى تيار سريع دافق على حافة الفوهة الصخرية.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .