دَرْس العقل - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 5:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دَرْس العقل

نشر فى : الخميس 8 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 8 مارس 2012 - 8:00 ص

مناوبات «طبيب طوارئ الزيارة» فى مستشفى كبير للأمراض العقلية، هى أكثر المهمات عبئا وإملالا ومخاطرة، ومع ذلك كانت هى أحب المهمات إلى نفسى فى قسم الحريم التابع للمعهد الذى كنت أدرس به فى مستشفى بافلوف فى كييف، وكان زملائى من الأطباء الروس من الإخصائيين الاكلينيكيين يتعجبون من إقبالى على هذه المهمة، خاصة فى الشتاء الذى تحاصر بشره ودنياه الثلوج، فيتحول البياض الصقيعى خارج النوافذ إلى أسوار سجن ناصعة قابضة للروح، لكن هذه المناوبات كانت على غير ما يتوقعون أكثر اللحظات تحريرا لروحى، بل إطلاقا لها، وقد كان فى ذلك سر صغير كبير يرعش القلب ويدفعنى انتظاره إلى نسيان كل أعباء هذه المناوبات.

 

فى الاتحاد السوفييتى الذى تبخر، كانت كل رابع أسرة تقريبا تتكون من أم شابة مطلقة أو منفصلة ترعى طفلا أو اثنين وحدها، والسبب أنهم كانوا يسمحون بزواج الشباب فى سن 18، وتُمنح لهم شقة صغيرة عبارة عن استوديو بغرفة واحدة، وبعد بضع سنوات يحدث انفصال الزوجين وهما فى ريعان الشباب نتيجة لاكتشافهما زوال سحر الحصول على الآخر، وتراكم هموم لم تكن فى حسبان الشباب اللاهى ولا مجتمع العدالة المثقوبة، كما أن غياب الوازع الدينى والأعراف المجتمعية كانا مما يقرض حبال الصبر الجميل والمَودَّة والرحمة اللازمة فى أى علاقة زوجية، فتنهار العلاقة، ويهرب الزوج الشاب إلى الخمر أو عشيقة جديدة، لتبقى الأم وحدها تحمل عبء الأطفال فى شقة صغيرة وبمرتب محدود، وعندما يأتى الجنون ويضرب عقل الأم فتدخل المستشفى، يكون على الأطفال أن يدبروا شئونهم بأنفسهم، بل إن يدبروا أمر زيارة أمهم نزيلة المستشفى، ويكون مجىء هؤلاء الأطفال هو مكافأتى التى أتحمل من أجلها أعباء تلك المناوبات الثقيلة، والتى استقى منها فكرة هذا المقال عن شئوننا العامة حاليا!

 

ليس صحيحا أنه لا كرامة لنبى فى وطنه، فما من كرامة حقيقية لنبى أو ولى أو واحد من عوام الناس إلا فى الوطن، هذا إذا نظرنا إلى الكرامة بمعنى العز الحقيقى فى الحب والطمأنينة والود والمراعاة التى يشعر بها الإنسان بين أهله ومعارف عمره وشوارع صباه، مهما كان هؤلاء جميعا، وفى حالة كاتب وقارئ عربى تمثل اللغة المحيط الوجدانى لحياته، فإن الغربة تكون خانقة حقا، ولم تكن كل جمالات الطبيعة وسوانح الترفيه ومناهل العلم والثقافة بكافية للتعويض عن الاستوحاش للوطن، وكان القلب خائفا من التيبس ويتوق إلى رعشة تجدد حيويته وحياته، وكان الأطفال الذين يأتون لزيارة أمهاتهم المجنونات يمثلون منحتى الخاصة التى ترعش القلب، فتبعد عنه رعب الموات فى الغربة.

 

تأتى البنت الوحيدة، أو البنت وشقيقها، أو الشقيقان، أراهما من نافذة تطل على مدخل المستشفى المغطى بالثلوج، صغيران، بعضهما لم يتجاوز الخامسة، يخطوان بحذر على طرق الجليد فى ثياب الشتاء الروسى الثقيلة، يحملان ما جاءا به لأمهما، ثياب طلبتها منهما فى الزيارة الماضية وطعام جهزاه لها، ثم من نافذة داخلية تطل على غرفة الزيارة أرى أعجوبة العقل الذى ينبت من أرض الجنون، فلقاء طفل أو طفلين صغيرين بأمهما المريضة عقليا يهز القلب ويثير الدهشة، فالأم تحتضنهما بعنف واضح أنه يوجعهما، وتمطرهما بقبلات ملهوجة على كل سنتيمتر من وجهيهما متوردة الخدود وأياديهم الصغيرة الجميلة، وهما يُبدوان تماسكا عجيبا وكأنهما راشدان كبيران، لا يتملصان من عنف الضم ولا يراوغان من مطر القبلات، ثم يجلسان وقورين، الولد كرجل صغير حكيم والبنت كسيدة صغيرة رصينة، يصغيان لطرطشات أمهما بصمت ويتحملان انقضاضات عواطفها عليهما بين الدقيقة والدقيقة، ثم يكون «عمود» الأكل الذى أحضراه معهما هو مايهز نياط قلبى عندما أذهب فى التصور كيف لطفلين صغيرين أن يعدا طعاما لأمهما، وكيف غسلا ثيابهما وقاما بكيها وطيها، كيف يذهبان إلى مدارسهما ويعودان لإعداد طعامهما بأنفسهما ويغسلان ثيابهما وينظفان البيت ويحرس كل منهما الآخر. لقد كبرا عشرين سنة دفعة واحدة، فى بضعة أيام أو أسابيع منذ مرضت أمهما.

 

أيامها، كان هذا النضوج البارق وتناقضه مع طفولة هؤلاء الصغار أبناء المريضات العقليات، ينعش روحى بعواطف جياشة، فأعوِّض افتقادى لجيشان عواطف الوطن بكل مافيه من أفراح وأتراح، لكننى فى ضوء شعاع التأمل الذى كان يتسلل وسط حزمة الانفعالات، كنت أضع يدى على قانون رهيب، هو: أن مواجهة الجنون تستدعى أقصى حدود العقل والتعقل، وهى ملاحظة لم تكف عن لفت انتباهى فى مصر بعد ذلك، فيمن يحيطون بالمرضى العقليين من أقرب الأقارب، الآباء والأمهات والزوجات والأزواج والأبناء، خاصة الصغار منهم الذين يكون تعقلهم أعجب وأرهف مايكون، وهو تعقُّل أراه الآن مرشد رؤية لا فى الحالات الفردية التى يواجه بها الصغار جنون أمهاتهم وآبائهم، بل فى الحالات الجمعية للأم التى تفقد أجيالها الراشدة رشدها فى لحظات فارقة من لحظات التحول التاريخى، وأنا أرى فقد الرشد هذا ملحوظا فى كثير من راشدينا الآن، خاصة كثيرين ممن دفعت بهم الارتباكات السياسية وسوء الإدارة وعدم الصدق والتدافع للاستحواذ على أكبر قطعة من السلطة بكل روافدها، ولا أرى الكثير من مخرجاتها فى الميادين وملاعب كرة القدم وتحت القبة وفى المستشفيات والمحاكم إلا تعبيرات زاعقة عن جنون سياسى واجتماعى للكبار، توقظ، أو ينبغى أن توقظ، عقل وحكمة الصغار، وهم الشباب فى هذه الحالة التى تشمل أمة كاملة لا أما مفردة.

 

إننى استخدم لفظ الجنون هنا متعمدا تماما، ومقتنعا برغم أن هذا قد لايروق لأساتذتى وزملائى من الأطباء النفسيين الذين يرفضون استخدام اللفظ نظرا لما يتضمنه من «وصم» للمريض النفسى يزدريه اجتماعيا وإنسانيا، لكننى فيما أنا بصدده أرى الجنون شاخصا فى الكلمة لغويا وتفسيرا مرضيا، حيث الجنون من جذر الفعل (جنَّ) بمعنى غطى وحجب، وهذه التغطية وهذا الحجب هما جوهر آلية المرض العقلى أو (الذهان)، فى أفضل إجابة على سؤال: «ماهو الجنون»، وهى إجابة وردت فى كتاب «الإنسان والجنون» الذى سبق وأن أشرت إليه، وراجع ترجمته الدكتور أحمد عكاشة، برغم أن عنوانه الأصلى هو «القفص الذهبى»، فالمجنون إنسان لأسباب عديدة ساحقة لجهازه النفسى، اصطنع لذاته عالما وهميا خاصا وقانونا خاصا، وعاش فى هذا العالم وبهذا القانون منفصلا عن العالم الواقعى كأن هذا العالم غير موجود أو محجوب عنه. أوليس كل تعصب، سياسى أو اجتماعى أو طائفى أو سلطوى أو حزبى أو أيديولوجى أو مذهبى هو نوع من هذا الانفصال عن المحيط الاجتماعى والسياسى والإنسانى للمتعصب، بل صنف من أصناف حجب العالم خارج كيان الجماعة أو الحزب أو العصبة أو المجلس أو الاتجاه الأيديولوجى أو المعتقَدى المتعصبة كلها؟

 

استحلفكم بالله أن تنظروا فيما أدعيه، وتطبقوه على ما نعرفه جميعا من الأحداث والحوادث السياسية والاجتماعية العجيبة الغريبة التى وقعت من «الكبار» فى الأسبوعين أو الثلاثة الأخيرة فقط، وهى لا تختلف كثيرا عما قبلها، سواء من الإدارة الممثلة فى المجلس العسكرى وحكومة الجنزورى أو فى مجلس الشعب أو على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد، ألا يُعبِّر اضطرابها وغرابتها عن جنون مجمتعى وسياسى وسلطوى وبرلمانى وحزبى بالمعنى الذى أشرت إليه فى الإجابة عن سؤال «ما هو الجنون»؟! إننى أرى فى الكثير مما بدر عن كل هؤلاء جنونا سياسيا واجتماعيا يخيف، نعم يخيف، لكن هناك ما يدعونى للأمل انطلاقا مما أوردته من أن جنوح جنون الكبار يستدعى من حيث لا نحتسب أقصى رشاد وتعقُّل الصغار، الذين هم فى حالتنا شباب هذه الأمة من كل الأطياف دون استثناء، وسوف أثبت ذلك بقناعة وأمل، فليحفظ الله على شباب أمتنا جميعا سلامة نفوسهم وعقولهم، ويشفى الآخرين.

 

(تنويه: صدور «الميدان»، الديوان الجديد لشاعر كبير بحجم عبدالرحمن الأبنودى حدث يستحق الفرح العام، أما فرحى الخاص فهو أن تصلنى منه نسخة مهداة بخطه الجميل ومحبته الصادقة، لكن هناك من يتعمد سرقة الفرح من الجميع، ولو برعونة القتال بسيف الآخرين كذبا، فهناك من زعم كتابة شاعرنا الكبير لقصيدة جديدة ضد الإخوان تحت عنوان مستفز، ودارت رحى الحرب الإلكترونية بين خصوم الإخوان ومؤيديهم دون تبيُّن، وانتهزها البعض فرصة لطعن الشاعر غدرا فى هوجة الوغى. وعندما اتصلت بشاعرنا الكبير أشكره على الهدية، وجدت ألمه عظيما من هذا الانتحال وما أعقبه، فالقصيدة ما هى إلا اجتزاء من تسجيل صوتى قديم من ديوان «الاستعمار العربى» الذى كتبه الشاعر عندما غزا صدام الكويت عام 1990!)

 

(ملحوظة: عرفت الأستاذ يحيى غانم من مصدرين لا يكذبان هما، زمالة ابنينا فى مدرسة واحدة، وكتاباته المتميزة للأهرام من جنوب أفريقيا والبوسنة والهرسك، وقناعتى أنه إنسان طيب ومهنى عالى الكفاءة وقليل الحظ، وجد مكانا لعمل إضافى فى اختصاصه كصحفى متمرس يدرِّس خبراته لصحفيين مصريين من الشباب، فى جمعية ظلت تعمل تحت سمع وبصر الحكومة المصرية سنين عددا وحتى أسابيع قليلة خلت، مما يعنى مشروعيتها الرسمية ولو بالعرف السائد الذى هو من عناصر الاستدلال على السماحية القانونية لدى عموم الناس، فأن يجد نفسه فجأة متهما وراء القضبان فى قضية يتم تهريب مُتهَميها الأصليين رسميا، فهذا أمرٌ ظالم ومؤلم، ليس ليحيى غانم وحده، بل لكل من عرفه صحفيا جادا ورب أسرة طيبا وإنسانا أثق فى براءة ساحته).

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .